السبت 2025/11/8 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 15.95 مئويـة
نيوز بار
قصة قصيرة بِضاعةُ الظِّلِّ المُعَلَّبَةُ
قصة قصيرة بِضاعةُ الظِّلِّ المُعَلَّبَةُ
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

حسين بن قرين درمشاكي

 كاتب وقاص ليبي

 

​السَّوادُ كان هوية البحر في السادس والعشرين من أكتوبر. لم تكن مياهه زُرقةً مُحتَرفةً؛ إنما شيءٌ يُناقِضُ طبيعته يكمُن في كونها زيتٌ مُحترقٌ يلف أشرعة سُفن النَّفي المُحنَّطة.

​على متن إحداها، التي لُقِّبت سرّاً بِالمَهدأة الكُبرى، انتصبت شَجرةُ الصَّمتِ: "الحاجَّةُ عائشةُ"، شيخوخةٌ محفورةٌ بجذور السنوات السبعين.

لم تحمل متاعاً، سوى مرآة التُّربة المكسورة في حقيبة عينيها، ورائحة اللبن والبارود المُجفَّف على كفّها.

​همس "عطش التِّيهِ"، وهو كهلٌ تساقطت من جيبه أسماء بلدته: "سيكون نفيُنا مُسمارَ الوَطن الخالدَ، يا عائشة. سينبت الأمل من عزلتنا في جُزر الفاشيَّة".

​لكن عائشة لم تُجِب. كانت تشاهد شاطئ طرابلس ينكمش، يتحول إلى نقطة حِبرٍ تسيل في صحيفة النِّسيان. لقد أدركت، قبل الجميع، أن النفي ليس مجرد جغرافيا؛ هو حُكمُ إفراغِ الرُّوحِ، وتحويل المُناضل إلى بِضاعةِ ظِلٍّ مُعلَّبةٍ في مخازن جُزر (بونزا) و(أوستيكا)، حيث لا يسمع صرخاتهم سوى التاريخِ الأصَمِّ.

​في المنافي، لم تقتلهم الأوبئة فقط؛ قتلهم هواءٌ لا يحمل ذرةً واحدةً من تُرابهم. فصاروا جميعاً، دون استثناء، أشباحاً بمساميرَ متأصلةٍ في رمل الجُزر. ماتت عائشة، وغادر عطش التِّيهِ قبلها، غير أن كفّها ظلَّت قابضةً على وعيِ الجُذورِ.

​عادت رُفاتها، بعد عقودٍ، في صندوقٍ أليقُ بزيف الصَّفحِ منه بقامة الشهادة. استقبلتها البلاد التي نسيت لون بحر أكتوبر. نُظِّم لها احتفالٌ رسميٌّ، خطبٌ مَرمرِيَّةٌ لم ينطق منها حرفٌ واحدٌ بِالسَّوادِ القديم.

​وفي لحظة تأبينها، وقف شيخٌ مهيبٌ، يتلفت في وجوه الخطباءِ المخذولين، ثم صرخ، لم يكن بصوته، هذا صوت المساميرِ الصَّدئةِ في نعش الوطن: يا قوم! إن البضاعةَ المعلَّبةَ قد عادت! أتدرون ما هي مفارقة المنفى الكبرى؟

​ثم سحب من تحت عباءته مِسماراً ضخماً، مصنوعاً من حديد السفينة العائدة، ورفعه كتمثالِ العار: ​إن عائشة ومَن معها، همُ الأوتادُ الخالدةُ التي ثبَّتت أرض ليبيا، حتى وهم مُبعَدون... خلافاً لهم، أنتم أيها القابعون على كراسي الزُّورِ، لم تكونوا يوماً إلا المساميرَ المخذولةَ التي دقَّها المستعمِرُ لتثبيت نعش الكرامة في قلب الوطن، وها أنتم تُتقِنون الدقَّ من بعده!.

​ثم ألقى المسمار أرضاً، فأحدث صوت ارتطامه صدعاً في قاعة الاحتفال، صدعاً يمتد من البحر الأسود إلى وعيِ الخاذلين.

المشـاهدات 44   تاريخ الإضافـة 07/11/2025   رقم المحتوى 68060
أضف تقييـم