السبت 2025/11/15 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
السماء صافية
بغداد 20.95 مئويـة
نيوز بار
التي كذبت..!! مسرودة قصصية
التي كذبت..!! مسرودة قصصية
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

شوقي كريم حسن

 

(المرآة التي تكذب، لا تفعل ذلك خوفًا من الحقيقة، بل رحمةً بمن لم يعد يحتمل رؤيتها.)

                                {شوقيا}

 

كنت أقول لنفسي:—ليس في الوجوه حقيقة… كلها خدع الضوء.حتى وجهي، هذا العالق بين خطوطٍ أرهقها النظر، لم يعد يشبهني.المرآة الجديدة ما زالت في الزاوية، تنام مثل جثةٍ على جدار.جلبتها من السوق، من رجلٍ لم يرفع رأسه حين أعطاها ليَّ، قال:-تحبّ أن تراها وهي تصدّقك أم تكذب؟!!

لم أجب.،.منذ متى كانت المرايا تصدّق؟

أنا الرسام الذي نسي ملامحه.أفتح عيني في الصباح، لا أعرف إن كنت ما زلت أنا، أم أني تحولت إلى خطوطٍ على لوحةٍ نسيتها على الحائط.المرآة تناديني كل ليلة بصوتٍ رقيق، يشبه ارتجاف ضوءٍ في ماءٍ راكد.أقترب.

في البدء لا أرى شيئًا. ثم يظهر .

وجهي… أهدأ، أنظف، دونما قلق.

أسأله:— من أنت،،،،؟!!

يرد، أو ربما خُيّل إلي أنه ردّ:ـ أنا أنت… بعد أن غسلتَ خطاياك بالألوان..!!

 الصباح التالي، وجدت وجهي مختلفًا.

شيء خفيف تبدّل.الهالات حول العينين تراجعت، الابتسامة أصبحت أليَن.غريب… لم أنم جيدًا، ومع ذلك أبدو كمن استراح من عمرٍ طويل.أتذكّر أمي تقول:—احذر المرآيا يا ولدي، إنها تحفظ وجوهنا أكثر مما نحفظها…!كنت أضحك. الآن لا أضحك.المرآة تحفظني فعلاً، لكنها لا تعيدني كما كنت..صرت أتجنّب النظر إليها طويلاً.

كلما نظرت، تغيّر شيءٌ فيّ.في كل مرّة، أشعر أن شيئًا يُنتزع مني.ذاكرة صغيرة، نغمة، اسم امرأة نسيتُ ملامحها.

كأن المرآة تتغذّى على نسياني.في ليلةٍ من ليالي الحُمّى، سمعتُ الصوت ثانية.همسٌ قادم من خلف الزجاج: —أطلْ أكثر… أريد رؤيتك تمامًا.!!

اقتربت…لم يك الانعكاس ينتظرني هذه المرة.كان يتحرك، ببطءٍ محسوب، كمن يدرّب جسدي على أن يكونه.قلت له:ـ توقّف…!!

ضحك. صوت الضحك خرج من فمي .تذكّرت يومي الأول في كلية الفنون، حين قال الأستاذ:—أخطر ما في الفن أنك ترسم نفسك، ثم تُصدّق أنك أصبحت لوحة…!!

كنتُ أظنه يتحدّث عن الغرور، لا عن النهايات.في الصباح، وجدت وجهي كاملًا… كما في المرآة.الناس قالوا إنني أشرق.لكنّي شعرت بفراغٍ لا يُحتمل، كأن الجمال لم يُخلق لي.المرآة لم تعد صامتة.حين أنظر إليها، أراه .يرسم…، يرسمني … بيدٍ ثابتة، وعينٍ تعرف أكثر مما أعرف.أصرخ فيه:

 —هذا جسدي!!

يردّ، مبتسمًا:—ليس بعد الآن.!!

حاولت تهشيم المرآة.لكنها لم تتهشم.صرخت فيها: —من فينا الذي يكذب،،،كفاك خداعاً؟!!

أجابت بنعومة زجاجٍ يقطر دمًا:—-من قال إن الحقيقة لا تحتاج إلى كذبة كي تكتمل؟!!

آخر ما أتذكّره، أنني لم أعد في الغرفة.

 الضوء يأتي من وراء الزجاج.و، على الجدار، يقف هو ،يرسم رجلاً يتلوّى خلف مرآةٍ صامتة. أراه الآن.و لا يراني.

 حين يقترب  من سطح الزجاج،أشعر أني أتنفس فيه، في المساء، أراه يرفع رأسه فجأة،كأن شيئًا ما ناداه من وراء المرآة….كنتُ أراه قبل أن يعرف أني أراه.وجهه يقترب ببطء، كمن يدخل إلى ذاكرةٍ ليست له.كان يشك في، و كنتُ أصدّقه. الوجوه التي مرّت أمامي خائفة من نفسها، إلا هو، كان خائفًا مني.قال لي ذات ليلة:—هل يمكن لمرآةٍ أن تُحب من يراها؟!!

لم أجب، لأن الزجاج لا يُحب، لكنه يحفظ أثر اللمس، أراه يرسم نفسه مثل من يعترف.كل ضربة فرشاة  تفتح في روحه بابًا صغيرًا، أرى من خلاله ما لم يرَه ..الطفل الخائف من أبيه لانه كسر لوح الطباشير، الأم التي  تمسح العرق عن جبينه قائلة:—-وجهك جميل، لا تدعه يشيخ بسرعة…المرآة تحفظ. لا تنسى.النسيان،، هو ما يصنع الإنسان…. أردت أن تكون خالدًا، فمحوت نفسك.ليالٍ كثيرة !!

حاولت أُبعاد ظلي عنه، تركه يرى قبحه كما هو، لكنه  يصرّ على النظر.

كلما نظر أكثر، أصبحتُ  أوضح، وهو أبهت.حتى ذاب فيي، كما يذوب الضوء في الماء.في المرة الأخيرة ا وقف فيها أمامي، لم يعد وجهه يختلف عن وجهي… عليّ أن أختار: من يبقى، ومن يُمحى… لا أملك أن أُبقي الاثنين.

الزجاج لا يحتمل وجهين.اليوم، حين يدخل الزوار قاعة العرض، لا يرون شيئًا سوى لوحةٍ معلّقة بإطارٍ نحاسي قديم.يقولون إنها “التحفة الأخيرة”.

لكن أحدهم،، يقف طويلاً،

ويرى ما يراه القتلى في أحلامهم:

وجهًا يطلّ من الزجاج، يسأل بهدوءٍ لا يُحتمل:—هل ترى نفسك حقًا.. أم ترى ما تتمنى أن تكون؟!!

أنا المرآة التي كذبتُ لأقول الحقيقة.

ولأن الحقيقة قاسية، لم ينجُ أحد ممن نظروا إليّ. لم أعد أعرف متى انتهي  ومتى يبدأ هو…كل حركة على الجدار،، هي أنا…ألمس وجهي فأجد زوايا لا أعرفها، أستدير لأرى ما كنت أختفي  دائمًا عنه:— خوف صغير، شحوب الأمس، طفل يصرخ في دواخلي.المرآة لم تعد شيئًا ماديًا.أنا المرآة، وهو أنا، وأنا أنا، الفراغ بيننا لم يعد موجودًا.

أتذكّر  الليالي التي جلست فيها أمامه،  الكلمات التي لم أنطق بها، الحب الذي لم يُسمح ليَّ التعبّير عنه… كلها تجمعت في لحظة واحدة: الصمت الكامل، الصرخة الكامنة، النظرة التي لم تتوقف أبدًا.كنت أحاول تلوّين الوجوه على اللوحة، وايجاد نفسي بين الظلال،لكن  الظلال كانت أنا، و اللون  يسحبني بعيدًا عن الضوء.أتذكر يدي الأولى التي اهتزّت على القماش،أصابع أمي التي لمست وجهي حين كنت طفلاً،،،أحبو داخل دوائر الأوهام، الأصدقاء الذين رحلوا، النساء اللواتي أحببت ولم يعرفني… كل شيء خلف الزجاج،  أمامه، كل شيء بداخلي، هو أنا.سألت نفسي: —من هو الذي نظر إليّ أولًا..هل أنا الذي أرى أم الذي يُرى

 أنا الرسام أم المرآة؟

صوتي في داخلي، صدى يجيبني

:—نحن الاثنين، كل واحد منا مجرد خدعة الضوء الأخرى.!!

حين أرفع يدي لالمس اللوحة، أشعر أني كتبت نفسي، أقرأ نفسي، أرسم نفسي، أمحو نفسي، في اللحظة نفسها…يذوب الزجاج ، والفرشاة تنهار، الضوء يمر بيني وبين نفسي دون فاصل.كنت أعتقد بخوفي، لكن الخوف  مجرد ظلٍ صغير، صامت، يراقبني من وراء وجهي الجديد.، أنا والمرآة، أنا وهو، لا نحتاج للزجاج، لا نحتاج للوحة.

كل لحظة  أظنها حياة،  مجرد انعكاس، وكل انعكاس  أنا.،،، حين يقترب أي إنسان من اللوحة، يرى وجهًا واحدًا، لكنه يقرأ فيه ما يريد، وما لا يريد، وما لم يُخلق بعد…أنا المرآة التي كذبت،  الرسام الذي اختفى،  الصمت الذي بقي…كل شيء هنا وهناك… كل شيء واحد.،،!!

المشـاهدات 35   تاريخ الإضافـة 15/11/2025   رقم المحتوى 68268
أضف تقييـم