| النـص :
بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان، يناقش هذا المقال واقع الحريات في العراق بعد أكثر من عقدين على التغيير، انطلاقًا من مؤتمر المرصد العراقي لحقوق الإنسان، وصولًا إلى سؤال التنفيذ الغائب. قراءة تحليلية هادئة تكشف الفجوة بين الخطاب والممارسة، وتعيد طرح دور المجتمع المدني، وحدود الإصلاح، ومستقبل الحقوق في بلد ما زال الجدل فيه مفتوحًا.يشكّل اليوم العالمي لحقوق الإنسان مناسبة سنوية لإعادة طرح سؤال الحقوق والحريات في المجتمعات التي ما زالت تعاني من فجوة واضحة بين النصوص المعلنة والواقع المعاش. وفي الحالة العراقية، لا يمكن التعامل مع هذه المناسبة بوصفها تقليدًا احتفاليًا أو محطة خطابية عابرة، بل باعتبارها لحظة اختبار حقيقي لمسار سياسي واجتماعي مضى عليه أكثر من عقدين، وما زال يتعثر في ترجمة المبادئ الدستورية إلى ممارسة يومية تحمي الإنسان وتصون كرامته.في هذا السياق، جاء انعقاد المؤتمر الوطني الذي نظمه المرصد العراقي لحقوق الإنسان في بغداد، بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان، تحت عنوان "تقييم واقع حقوق الإنسان في العراق بعد عام 2003 ودور المجتمع المدني في حماية الحريات"، ليعيد إلى الواجهة نقاشًا لم ينقطع منذ سنوات، لكنه لم يبلغ بعد مرحلة الحسم. فالمؤتمر، الذي شهد حضور باحثين وحقوقيين وممثلي منظمات المجتمع المدني وصحافيين، لم يطرح إشكالات جديدة بقدر ما أعاد ترتيب الأسئلة القديمة، وكشف مرة أخرى عن عمق المأزق الذي يواجه ملف الحقوق والحريات في العراق.لقد ناقشت الطاولات المستديرة التي تضمنها المؤتمر مسؤوليات السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في تعزيز حماية الحقوق، وتوقفت عند التحديات التي تعترض عمل المجتمع المدني، وانتهت إلى صياغة تسع توصيات جرى التأكيد على ضرورة متابعتها وتنفيذها. غير أن القيمة الحقيقية لمثل هذه المؤتمرات لا تُقاس بعدد التوصيات ولا بدقة الصياغات، بل بقدرتها على كسر الحلقة المفرغة التي تجعل من التقييم فعلًا متكررًا، ومن التنفيذ وعدًا مؤجلًا.إن الإشكالية الأساسية التي يواجهها خطاب حقوق الإنسان في العراق لا تكمن في غياب التشخيص، فالتقارير المحلية والدولية، والمؤتمرات والندوات، وحتى الاحتجاجات الشعبية، قدّمت توصيفًا واضحًا لحالة الحقوق والحريات. المشكلة تكمن في أن هذا التشخيص لم يتحول إلى سياسات عامة مستقرة، ولم يُترجم إلى منظومة مؤسسية تضع حماية الحقوق في صلب عملية الحكم، لا في هامشها.منذ عام 2003، دخل العراق مرحلة جديدة اتسمت، نظريًا، بالانتقال إلى نظام ديمقراطي تعددي، يقوم على دستور يكفل الحريات العامة وحقوق الإنسان. غير أن التجربة العملية كشفت عن تناقض بنيوي بين الخطاب السياسي المعلن، والممارسة الفعلية للسلطة. فالحريات، بدل أن تُفهم باعتبارها شرطًا لبناء الدولة، جرى التعامل معها في كثير من الأحيان بوصفها عامل إرباك، أو تهديدًا محتملًا للاستقرار، أو ملفًا يمكن تأجيله لصالح أولويات أخرى.هذا التناقض هو ما يجعل الحديث عن واقع حقوق الإنسان في العراق حديثًا عن صراع مستمر بين منطقين: منطق الدولة التي لم تحسم بعد طبيعتها المدنية وحدود سلطتها، ومنطق المجتمع الذي يطالب بحقه في التعبير والمشاركة والمساءلة. وهو صراع لا يظهر فقط في النصوص القانونية أو القرارات السياسية، بل يتجلى في تفاصيل الحياة اليومية، وفي العلاقة الملتبسة بين المواطن والمؤسسات، وبين الناشط والسلطة، وبين الإعلام والرقابة.لقد أظهرت التجربة العراقية أن توسيع هامش الحرية لا يسير في خط تصاعدي مستقر، بل يخضع لمعادلات سياسية وأمنية متقلبة. ففترات الانفتاح النسبي سرعان ما تعقبها موجات من التضييق، تُبرَّر تارة بالحفاظ على الأمن، وتارة بحماية السلم الأهلي، وتارة أخرى بذرائع قانونية فضفاضة. وفي كل مرة، تكون النتيجة واحدة: إعادة إنتاج الخوف، وإضعاف الثقة، وتكريس الشعور بأن الحرية منحة قابلة للسحب، لا حقًا أصيلًا.في هذا الإطار، يبرز دور المجتمع المدني بوصفه أحد أكثر الملفات تعقيدًا وإشكالية. فمن جهة، لا يمكن إنكار التوسع الكبير في عدد المنظمات المدنية بعد 2003، ولا الدور الذي لعبته في توثيق الانتهاكات، والدفاع عن الضحايا، وفتح مساحات للنقاش العام. ومن جهة أخرى، فإن هذا التوسع الكمي لم يُترجم دائمًا إلى تأثير نوعي قادر على إحداث تغيير مستدام في السياسات العامة.يعمل المجتمع المدني العراقي في بيئة مثقلة بالقيود، تتداخل فيها النصوص القانونية غير الواضحة مع الممارسات الإدارية والأمنية، وتُفرض فيها على المنظمات شروط وإجراءات تجعل من الاستقلالية تحديًا يوميًا. وبدل أن يُنظر إلى هذه المنظمات باعتبارها شريكًا في بناء الدولة، غالبًا ما تُعامَل بوصفها طرفًا مزعجًا، أو مصدر قلق، أو فاعلًا ينبغي احتواؤه وضبطه.هذا الواقع يجعل من المجتمع المدني فاعلًا في دائرة الخطر، لا في دائرة الحماية. وهو ما ينعكس سلبًا على قدرته في الدفاع عن الحريات، ويحوّله في أحيان كثيرة إلى ناقل للأزمات بدل أن يكون أداة لمعالجتها. كما يساهم في إضعاف الثقة بينه وبين الجمهور، الذي يبدأ بالتساؤل عن جدوى العمل الحقوقي في ظل غياب نتائج ملموسة.إن التوصيات التي خرج بها مؤتمر المرصد العراقي لحقوق الإنسان تعبّر، في جوهرها، عن إدراك واعٍ لهذه الإشكاليات. غير أن التجربة العراقية تُظهر أن التوصية، مهما بلغت أهميتها، تظل خطوة ناقصة إذا لم تُرفق بإرادة سياسية صريحة، وآليات تنفيذ واضحة، ومساءلة جدية للجهات المسؤولة. فالتاريخ القريب مليء بتوصيات أُعلنت بحماسة، ثم طواها النسيان، من دون أن تترك أثرًا يُذكر في حياة الناس.السؤال الذي يفرض نفسه هنا ليس ما إذا كان العراق بحاجة إلى مزيد من المؤتمرات، بل ما إذا كان بحاجة إلى انتقال نوعي في طريقة التعامل مع ملف حقوق الإنسان. انتقال يجعل من الحقوق معيارًا للحكم الرشيد، لا عبئًا على السلطة، ومن الحريات ضمانة للاستقرار، لا تهديدًا له.إن اليوم العالمي لحقوق الإنسان، في السياق العراقي، ينبغي أن يكون مناسبة لمراجعة جريئة للمسار كله، لا لحصيلة عام واحد. مراجعة تعترف بأن بناء منظومة حقوقية فاعلة لا يتحقق بالشعارات ولا بالالتزامات الشكلية، بل بإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبإقرار أن الإنسان ليس موضوعًا للإدارة، بل غاية للسياسة.وإلى أن يتحقق هذا التحول، سيبقى سؤال حقوق الإنسان في العراق مفتوحًا، يتجدد مع كل مناسبة، ويذكّر بأن الطريق إلى الحرية أطول وأكثر تعقيدًا مما توحي به النصوص، وأن الدفاع عن الحقوق ليس معركة ظرفية، بل مسار تراكمي يتطلب صبرًا، ووعيًا، وشجاعة في مواجهة البنى التي ما زالت ترى في الحرية خطرًا، لا أفقًا.
|