الأحد 2025/12/21 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
ضباب
بغداد 4.95 مئويـة
نيوز بار
حُرّاسُ الغياب: قراءةٌ نقديّة في مجموعةٍ بلا نُقاط
حُرّاسُ الغياب: قراءةٌ نقديّة في مجموعةٍ بلا نُقاط
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

أ.د. علي حسين يوسف

حين يختارُ شاعرٌ أن يُسقط النقاط من حروفه، فإنه بذلك الصنيع لا يجرّد الأبجدية من بعض زينتها الصوتية فحسب، إنما يخلخلُ يقينَ القارئ بما يراه مُسلَّماً.... ولنا في المجموعة الشعرية (حرس) خير مثال على ذلك, فالنصّ في هذه المجموعة لم يُمنح كاملاً، إنما تُرك ناقصاً عمداً, كأنّ الشاعر (نبيل نعمة) يعلن أنّ اكتمال المعنى مهمة تُنتزع انتزاعاً. وهنا نكون أمام فعل تمرّدٍ جماليّ، يتضمن في عمقه خطابٌ طبقيّ: من يملك حقّ التفسير؟ من يُمسك بسلطة الدلالة؟ القارئ يُستدعى مضطراً ليكون شريكاً منتجاً للمعنى، وهذا موقفٌ ملتزم يعيد توزيع رأس مال الدلالة.

النقاط في العربية حدود وهويّات، تميّز الحروف وتفصل بينها, وإسقاطها يعني ثورة على الحدود وتفكيكا لمنطق التصنيف. والمجموعة التي بين أيدينا مغامرة نصوصية بلا نقاط , لذلك فهي نصٌّ يتحرّر من الأمن اللغوي، ويُقحم القارئ في غابة احتمالات، حيث كل كلمة تمتلك أكثر من حياة، بدءاً من العنوان الذي يمكن أن يكون (حرس) أو (جرس) أو (خرس) أو إي احتمالات أخرى, وكل جملة قابلة للانقلاب الدلالي في أية لحظة. كأن الشاعر يقول: المعنى ابنُ الصراع، وأن الحقيقة ـ مثل المادة ـ تتحرك وتتأثر بعين الناظر.

ومن جهةٍ أخرى، تبدو الحركة نحو المعنى نَفَساً صوفيّاً خالصاً: فالمعنى الطليق يُكشفُ حجاباً إثر حجاب.... النقطة في التصوّف رمز انتهاء وفصل، حدٌّ يواجه فيض اللانهائي, وإسقاطها دعوة إلى أن يكون النص جسراً مفتوحاً بين الإنسان ومجهوله, ومادام الحرف دون نقطة، يبقى قابلاً للمعراج: الباء تتقمّص هيئة التاء أو الثاء، والجيم تتخفّى في هيئة الحاء أو الخاء… اللغة هنا كائن يتخفّى، والمعنى تظل رحلة دائمة.

يدفعنا الحرس أو الخرس أو الجرس إلى التساؤل :هل النصّ بلا نقاط أداة تحرّر؟ أم قيد جديد يُربك المتلقّي؟

إنه سؤال يضعنا في مركز جدلٍ حقيقي:

ففي الوقت الذي يسلِّم فيه الشاعر سلطة الفهم للقارئ، فإنه يضعه في فضاء حرية مُشاكِسة:

حرية تضلّل، وتُغرق، وتعاقِب الكسالى.

أما القارئ الذي يريد طريقاً معبّداً فإنه سيخسر.

ومن يغامر بالدخول في صحراء لا علامات فيها، قد يعثر على واحة المعنى.

إنها قراءةٌ تُشبه نضال الطبقة المستَغَلّة: لا خلاص دون جهد.

وهنا تتواطأ الروحيتان:

فالعمل الشاق لفهم النص يمنحه قيمته الجمالية… والعمل الشاق في الوجود يمنح الإنسان خلاصه الروحي والوجودي معاً.

إن مجموعة (حرس) تقدّم المفارقة كاملة:

حُرّاس بلا نقاط يحرسون نصاً بلا حدود.

أيُّ حراسة هذه؟

أهي حمايةٌ للغموض؟ أم حمايةٌ من الفهم السطحي؟

أم أنها دعوة لأن يحرس كلُّ قارئ معناه الشخصي؟

إنها كتابة تُذكّرنا بأن اللغة ليست مرآة العالم فقط، إنها سجنه أيضاً.

ومتى كُسر قيد النقطة، تتحرّر الكلمات ويتحرّر وعينا من سطوة ما اعتدنا اعتباره مؤكداً ونهائياً.

القراءة هنا فعل مقاومة، وفي الوقت ذاته فهي تأويل يُشبه السعي الصوفي:

أن تواصل البحث عن معنى تعرف سلفاً أنه لا يستقر على حال.

وأن ترى الحقيقة تتبدّل لأن العالم نفسه في حركة دائبة…

حركة ديالكتيكية لا تهدأ.

هكذا تلتقي الجدلية بالصوفية عند عتبة النص:

الأولى ترى التاريخ تغيّراً وصراعاً

والثانية ترى الكشف درجاتٍ وسلوكاً

وكلاهما يُصرّ على أن الثبات وهم.

ربما أراد الشاعر تذكيرنا بأن النقطة ليست ما يمنح الحرف معناه…

فالمعنى يولد فقط حين يغامر الإنسان في القراءة.

النصوص في (حرس) تتحرك باستمرار بين شعور الوحدة وفكرة الاسم، وبين الذات المتكلّمة وفضاء الدلالة المنفتح. والقارئ يقف في مواجهة متكلّم يعترف: (وحدى)، (وكاںںى صدى)، إنه خطاب فراغ يسعى إلى الامتلاء, فالوحدة هنا ليست عزلة رومانسية ؛ إنها وضع وجودي: الفرد المجرّد داخل المجتمع، ذاك الإنسان الذي جرى سلخه عن انتمائه ووسائل تعبيره، في مجتمع تحكمه علاقات قمعية للهوية.

 تبدو الحروف بلا نقاط طبقة مسحوقة داخل بنية اللغة, نحن نعلم أن الحرف المنقوط في العربية يمتلك امتيازاً دلالياً، وأن النقطة رمز سلطة تضمن له صوتاً فريداً ومعنى محسوماً, أما إسقاطها فهو إلغاء للامتياز، وتفكيك للتراتبية الدلالية, ومن هنا يمكن أن نستنتج أن النصّ لا يقدّم كلمات، إنما مواد لغوية أولية تعيش في حالة أقرب إلى الصراع الطبقي بين الحروف: حروفٌ بلا علامات تبحث عن هويتها التي سُلبت منها.

هذا البعد الجدلي يمتزج مع رؤية عميقة تحاول الوصول إلى جوهر الاسم:

(اوٯڡںںى فى الاسم

ٯال لا اںا ڡى الحرڡ ولا اںا الكلمه

اںا دوام الحرف وكمال الكلمه)

المتكلم هنا يريد أن يكون أصلاً ومعنى وسيرورة وينأى بنفسه أن يكون وصفاً أو شكلاً أو حالة؛ إنه المعنى المتحوّل الذي لا يُختزل في رمز أو إشارة، ولا يُقبض عليه بحدود ظاهرة.

في العرفان: الاسم وجه من وجوه الحقيقة، وليس الحقيقة ذاتها.

والشاعر هنا يذهب أبعد من هذا لينص على أن الاسم نفسه في حالة بحث عن ذاته.

وقد تشير النصوص إلى مقاومةٍ ذاتية ضد تصنيف الآخرين:

(اسمٮـها ٮـحلٮـا اںٮـٮـاٯا او طهورا

اسمٮـها ٮلاسا اںكڡاء او كموںا

حى لا اٮماهى معى)

الاسم هنا موضوع نزاع: أيُّ وعي يملك أن يعرّف الإنسان؟

وعي السلطة؟

وعي الجماعة؟

أم وعي الذات الداخلية؟

تتجسد هنا جدلية الوعي في ذاته والوعي لذاته: فالاسم حين يفرض من الخارج يصبح قيداً طبقياً وثقافياً, وحين ينبع من الداخل يصبح انعتاقاً وإعلان امتلاك للذات. يقاوم المتكلم الاسم المفروض، ويسعى إلى اسم لا يُستعار ولا يُورث؛ اسم يشبه الساعين في فعلهم: يصنعونه بأنفسهم.

وبالتوجه نحو اللغة فإننا لا شك سنغامر بغية التمسك بشيء, فاللغة هنا تمثل وحشة الوجود , وردَ في (حرس):

ٯٮـرٮـى

كى ٮسمعى بالٮـڡاصٮـل اكٮر

اقراى الاسما بالاحصر العامٯ

سٮـرٮـں من ںاڡده صدرى اسحارا ماهوله وعاٮـه)

الصوت هنا يطلب التوسّع كأن المعنى في ضيق دائم ويحتاج إلى انفراج. واللغة نفسها تُرى بوصفها مكانا مغلقا لا يسمح بالتنفّس؛ الأسماء حصار عام يحجب الحقيقة عن الانجلاء لكن في الوقت ذاته فإن المعنى سرّ في الصدر، إنه نافذة كامنة تنتظر الكشف, ومع ذلك كله لا تُمنح الأسماء للقارئ جاهزة, فهي تحتاج جهداً… وسعياً… وتحوّلاً.

هذا اللقاء بين فكرة الصراع والنزوع الروحي يخلق نصّاً أصلب من الفولاذ وأقرب إلى الحيرة الصوفية من أي يقين.

حُرّاس الغموض… أم حُرّاس المعنى؟

حين يكتب الشاعر: (وحدى)

يتكرر الصوت، كأنه نبض كوني.

لتعلن الذات وجودها دون أن تجد ما يسندها.

ومن هنا تصبح الكتابة حراسةً لمعنى مهدد بالاندثار, وسيكون النصّ كلّه فعل حراسة: حراسة المعنى من السقوط في التماثل، وحراسة الاسم من الاستلاب، وحراسة الإنسان من محو هويته وسط صخب العالم.

وأخيرا هل يحق لنا أن نزعم بأننا أما فعل جمالي مغاير؟ هل نعد امتياز (حرس) بخلوها من نقاط والهمز فقط ؟

أعتقد أننا بصدد صياغة سؤال ثوري لغوي… ووجودي… وروحي:

كيف نسمّي أنفسنا؟ وأيُّ معنى نصنع ونحن نعيش في نظام يفرض علينا ماذا نقول وماذا نكون؟ أمام نصوص تُخفي ناراً تحت جلد حروفها:

نار البحث عن ذاتٍ لا تُؤسَر، ومعنى لا يهدأ، واسم يليق بالإنسان كما يليق الكشف بالعارفين.

المشـاهدات 32   تاريخ الإضافـة 21/12/2025   رقم المحتوى 69124
أضف تقييـم