| النـص :
في عمق الصحراء القاحلة بوادي كواتشيلا في ولاية كاليفورنيا تقف بلدة صغيرة تحمل اسماً استثنائياً في الجغرافيا الأميركية "مكة"اسم قد يبدو غريباً في خارطة الغرب لكنه يخفي وراءه حكاية زراعية وثقافية تمتد لأكثر من قرن بدأت عندما شقّت فسائل نخيل قادمة من الشرق طريقها نحو الغرب لتستقر في أرض لم تعرف التمور من قبل تعود القصة إلى بدايات القرن العشرين حين سافر مزارعون ومستكشفون أميركيون إلى الشرق الأوسط بحثاً عن محاصيل قادرة على التأقلم مع مناخ كاليفورنيا الحار والجاف وكان الخيار الأكثر ملاءمة هو نخيل التمر الشجرة التي شكّلت جزءاً أساسياً من الهوية الزراعية في العراق ومصر والجزائر من بساتين البصرة ومزارع جنوب العراق إضافة إلى دول عربية أخرى نُقلت فسائل النخيل عبر البحار لتُزرع تحت شمس كاليفورنيا الحارقة في تجربة زراعية لم يتوقع أحد أن تنجح بهذا الحجم ومع مرور الوقت وجد النخيل موطناً جديداً في الصحراء الأميركية فالأرض الرملية والشمس الحارقة وتقنيات الري المتطورة جميعها أسهمت في توفير بيئة مثالية لنمو هذه الشجرة الشرقية وهكذا تحولت بلدة مكة إلى أحد أهم مراكز زراعة التمور في الولايات المتحدة حيث تُزرع أصناف شهيرة مثل المجدول ودقلة نور وتُصدَّر إلى مختلف الولايات بأسعار مرتفعة نظراً لجودتها العالية لكن أهمية تمر "مكة" تتجاوز الجانب الاقتصادي فالنخلة في الوجدان العراقي والعربي ليست مجرد شجرة بل رمزٌ للثبات والهوية وامتداد لذاكرة حضارية تمتد لآلاف السنين وفي هذه الصحراء البعيدة تتجدد تلك الذاكرة إذ تنمو جذور شرقية على أرض غريبة حاملة معها عبق الشرق وإن تغيّر المكان وقد أسهم نجاح زراعة التمور في تلك المنطقة بدور بارز في تنشيط اقتصاد البلدة إذ وفّرت المزارع فرص عمل واسعة وأصبحت جزءاً من قطاع زراعي نشط في وادي كواتشيلا كما دخلت التمور في صناعات غذائية أميركية متنوعة من الحلويات إلى مشروبات الطاقة والمنتجات الصحية لتصبح النكهة العربية جزءاً من المائدة الأميركية ومع كل موسم حصاد تتجدد الحكاية نخلة عربية تنمو في أقصى الغرب لكنها تحمل في ثمارها روح الشرق وفي وقت يواجه فيه العراق تحديات زراعية ومناخية متزايدة يبرز نموذج "مكة الأميركية" كتجربة تستحق التأمل تجربة تثبت أن الإرث الزراعي العراقي قادر على الانتشار والنجاح متى ما توفرت البيئة الملائمة والدعم العلمي والتقني إن تمر "مكة" ليس مجرد محصول بل قصة عبور ثقافي وزراعي ترويها نخلة تقف شامخة في صحراء كاليفورنيا وما زالت تحمل قلب الشرق بين سعفاتها
|