الإثنين 2025/12/22 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
السماء صافية
بغداد 11.95 مئويـة
نيوز بار
صناعة الطاغية ( الجزء الاول )
صناعة الطاغية ( الجزء الاول )
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب رياض الفرطوسي
النـص :

في البلدان التي تتعب من نفسها، لا تولد السلطة فجأة، بل تُصنَع على مهل. تُعجن بالأفكار، وتُلمَّع بالمخاوف، ثم يُعلَّق لها اسم كبير: القائد الضرورة.

هكذا يبدأ كل شيء عادةً… لا بانقلاب، بل بفكرة.

 

في زمنٍ كان العراق فيه يبحث عن خلاصٍ سريع، عن قبضةٍ تشدّ الفوضى من عنقها، ترسّخت بين نُخب حزب البعث قناعةٌ بأن الجماهير وحدها لا تكفي، وأن التاريخ – حين يشيخ – يحتاج رجلًا لا صندوق اقتراع. رجلًا يختصر الأمة في صوته، والدولة في ظله.

كانت تلك النخب ترى أن النظام لا يقوم على المؤسسات، بل على الإرادة، وأن الزعامة ليست اختياراً شعبياً بل قدراً سياسياً. ومن رحم هذا الإيمان، وُلدت فكرة "القائد الضرورة" التي سرعان ما تجاوزت الحزب لتبتلع الدولة بأكملها.

 

كان الإيمان بـ“القائد الضرورة ” إيماناً فلسفياً قبل أن يكون سياسياً. فكرة مستوردة من كتب الفلاسفة، لكنها حين نزلت إلى أرض الرافدين، لبست الزي العسكري، وتكلمت بلهجة الحسم. لم يكن الأمر إعجاباً عابراً بشخص، بل اقتناعاً بأن العراق لا يُقاد إلا من أعلى، وبأن الديمقراطية في بلادٍ مثقلة بالهويات ليست وعداً بالخلاص، بل وصفةً للفوضى.

 

في تلك اللحظة، لم تكن الشعارات الحزبية تُفهم على معناها الحرفي. الحرية لم تكن صناديق، بل استقلال قرار. والاشتراكية لم تكن عدالة، بل سيطرة الدولة. أما “الديمقراطية”، فكانت كلمة تُقال للاستهلاك، لا للاستخدام.

 

بين رجلين، كان العراق يقف على حافة التحوّل.

 

أحدهما هادئٌ، وقور، يحمل في ملامحه رائحة الدولة القديمة، ويتكئ على ما تبقّى من هيبة الماضي. هو أحمد حسن البكر؛ رجلٌ يجمع بين خشونة العسكريين ووقار الشيوخ، يتظاهر بالسكينة والتديّن، ويُخفي خلف هدوئه حذراً غريزياً من زمنٍ يعرف أنه لم يعد زمنه. كان يؤمن بالتدرّج، بالعرف، وبأن السلطة تُدار بالعادات لا بالمغامرات.

                                                          لكنه، من حيث لا يدري، كان يُمهّد الطريق لظلّه الأكثر بروزاً؛ ذاك الذي كان يقترب منه بخطواتٍ محسوبة، يُقدّم الولاء كغطاء، والطموح كقَدَر.

 

والآخر متوثّب، متقد، يرى في المستقبل مشروعاً شخصياً لا وطناً جماعياً؛ هو صدام، الطموح الذي لا يعرف الانتظار.

كان الأول يتحدث بلسان الماضي، والثاني بعينٍ على الغد، وبين الحذر والاندفاع بدأ الميزان يميل.

 

فالسياسة – كما هي دائماً – لا تصبر على المترددين، ولا تسعُ قلبين في جسد سلطةٍ واحدة.

 

كان الصراع غير معلن، لكنه محسوم في الكواليس. فـ(صدام) لم يكن يؤمن بنصف الحلول، ولا يرى في الانتظار فضيلة. أدرك مبكراً أن السلطة لا تُوهَب، بل تُنتَزع، وأن الأخلاق في معارك الحكم ترفٌ لا يملكه الطامحون إلى القمة. قرأ الأمير لا ككتابٍ في الفكر السياسي، بل كخريطة طريق، وطبّق الميكافيلية لا بوصفها فلسفةً، بل كغريزةٍ متأصلة في سلوكه.

 

 وهكذا، بدأ يبني طريقه إلى العرش خطوةً بعد أخرى، مدفوعًا بيقينٍ داخلي أن التاريخ لا يرحم المترددين، وأن القوة وحدها هي التي تكتب فصول الحكم.

 

في البداية، بدا كل شيء منسجماً مع منطق الضرورة، بل بدا – في أعين كثيرين – خطوةً محسوبة نحو الخلاص. حتى الحرب، رغم أن أبواب تفاديها كانت مفتوحة، جرى تقديمها كقدرٍ لا مهرب منه، وكأن التاريخ نفسه كان يطالب بقرابين جديدة.

 

تداخلت ضغوط الخارج مع حسابات الإقليم، وامتزجت بها هواجس الزعامة التي ترى في النار وسيلةً للتطهر لا للهلاك.

 

لكن النار، كما هي دائماً، لا تعرف ما يُراد بها؛ فهي لا تميّز بين من أشعلها ومن احترق بها.

 

بعد الحرب، بدأت الشقوق تظهر. لم يعد القائد هو المشروع، بل أصبح المشروع هو القائد. تراجع الخطاب العقلاني، وتقدمت اللغة العشائرية. تسلل الريف إلى القصر، وصارت الدولة تُدار بمنطق الثأر والولاء لا بالكفاءة. تحوّل الطموح من رغبة في صنع التاريخ إلى هوس بالذات. ومن قيادة البلاد إلى امتلاكها.

 

أخطر لحظة في عمر السلطة ليست حين تقسو، بل حين تظن أنها تُحب.

ففي ذلك الزمن، صار العراق قفصاً واسعاً، تُغلق أبوابه باسم الأمان، وتُفتح فقط لمن يبارك الصمت. لم يعد الخروج قراراً شخصياً، بل جريمةً تُفسَّر على أنها خيانة. من عرف الأسرار، صار أسيرها. ومن رأى المطبخ من الداخل، حُكم عليه بالبقاء تحت العين، لا تحت الشمس.

 

تحوّلت البلاد إلى دائرةٍ مغلقة، تُدار بالخوف والشك. فكل مسؤولٍ يُفكّر في الرحيل كان يُرى كخطرٍ محتمل، وكل اختلافٍ في الرأي يُترجم إلى مؤامرة. لم تعد الحدود تفصل الوطن عن الخارج، بل صارت تفصل المواطن عن نفسه.

فالسلطة التي تخاف السقوط، لا تثق بأحد… حتى بأقرب المصفقين لها.

 

وهكذا، قبل أن تبدأ الحروب الكبرى، كانت الحرب الأولى قد اشتعلت:

حرب الفكرة حين تتحول إلى صنم،

وحرب القائد حين يظن أنه الوطن.

 يتبع ..

المشـاهدات 27   تاريخ الإضافـة 21/12/2025   رقم المحتوى 69170
أضف تقييـم