الثلاثاء 2025/12/23 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 11.95 مئويـة
نيوز بار
صناعة الطاغية ( الجزء الثاني )
صناعة الطاغية ( الجزء الثاني )
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب رياض الفرطوسي
النـص :

في قلب سلطة البعث، كان هناك مكتب لا يهدأ، يحتفظ في جدرانه بصمت ثقيل وأسرار لا يلمسها سوى القليل من المقربين. هؤلاء الرجال، الذين اختارهم الطاغية ليكونوا عينه وأذنه، كانت مهمتهم نقل الحقائق كما هي، قراءة الواقع بلا رتوش، ومواجهة الأحداث بجرأة—أو على الأقل محاولة فهم ما يجري خلف الستار.

 

الطاغية لم يكن مجرد رئيس، بل كان مركز العالم في نظر هؤلاء، مرآة الدولة وقلبها النابض. ومن يعمل بالقرب منه كان يلمس الحدود الدقيقة بين الحقيقة والصورة، بين ما يجب أن يُقال وما قد يُغضبه، بين الواقع كما هو وبين الواقع كما يراه هو.

 

في البداية، كان يُسمح لهم بنقل الحقائق، ومراقبة ما يحدث، وتقديم تقارير صريحة عن الوضع الداخلي والخارجي. لكن مع مرور الوقت، سرعان ما تغير القانون غير المكتوب: لم تعد الحقيقة مطلوبة إلا إذا خدمتها صورة الطاغية، وإذا عكست عظمته كما يراها هو.

 

مع مرور الوقت، اكتشف المقربون أن الحقيقة ليست دائماً مرغوبة. الطاغية، الذي كان في البداية يقبل منهم الصراحة، صار يطلب شيئًا آخر: أن يرى نفسه في كل كلمة، في كل تقرير، في كل صورة تُعرض على الناس. المديح لم يعد مجرد تقدير، بل أصبح ضرورة. الالتزام بتكريس عظمة الطاغية تحول إلى سقف إلزامي لكل رسالة، لكل إعلان، لكل خطاب.

 

ومع تعاظم سلطته، بدأ الطاغية يهيمن على كل مفاصل الحياة العامة: الإعلام، التربية، التعليم، والمنظمات الجماهيرية، كلها أدوات لصياغة صورته الأسطورية. الجامعات أصبحت محصورة بأتباع حزب البعث العربي الاشتراكي، والفن والشعر استُخدما كأبشع وسائل الدعاية، لصناعة الطاغية رمزاً يفوق الواقع. في الوقت نفسه، كانت آلة التصفية تعمل بلا هوادة، لتزيل كل صوت معارض، كل تهديد محتمل لأسطورته المزيفة.

 

في هذا السياق، تشكلت النقابات والأحزاب الموالية: اتحاد العمال، الاتحاد الوطني لطلبة العراق، اتحاد الشباب، وكلها كانت وسائل مطواعة في خدمة الطاغية. الإذاعة والتلفزيون والأخبار أصبحت مرآة واحدة، صورة واحدة: الطاغية، الطاغية، الطاغية.

 

عندما اندلعت الحرب العراقية-الإيرانية، أصبح الإعلام آلة متقنة، جسراً بين الواقع والخيال، بين ما يحدث بالفعل وما يُراد للناس أن يصدقوه. العدو لم يعد مجرد قوة مقابلة على الأرض، بل شخصية مركبة تُلصق بها كل المخاوف والتهديدات، وكل الأشباح التي يريد الطاغية زرعها في عقول الجماهير.

 

القلق لم يكن محدوداً بالخارج فقط. داخل أروقة الحزب، كان الخوف من انهيار الداخل كالحرب مع الخارج: خوف من الثورة، من سقوط النظام، من انهيار ما يُبنى على خرافة القوة. الكوادر التي بدت صلبة بدأت تتململ، والوجوه التي بدت ثابتة بدأت تتردد تحت وطأة الرهبة، كما لو كان سقوط الخارج سيصبح واقع الداخل، ويحطم كل مناصبهم وأمنياتهم.

 

وهكذا، صُنعت الشخصية التي ستصبح الطاغية: ليس في القرارات وحدها، بل في الطريقة التي تُوجَّه بها العقول، في الصورة التي تُغرس في الذهن الجماعي، في الأسطورة التي تُحيط بالسلطة حتى تصبح الدولة نفسها امتداداً لشخص واحد. القوة لم تكن في الدولة، بل في الإيمان بها، الإيمان الذي زرعه شخص واحد في عقول الجميع، وجعلهم يصدقون أن الواقع يطابق الأسطورة.

 

يتبع ..

المشـاهدات 41   تاريخ الإضافـة 23/12/2025   رقم المحتوى 69225
أضف تقييـم