الأربعاء 2025/12/24 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
غائم
بغداد 12.95 مئويـة
نيوز بار
الدولة أولاً.. والسلاح أخيراً
الدولة أولاً.. والسلاح أخيراً
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب نوري حمدان
النـص :

 

 

 

يناقش هذا المقال الجدل المتصاعد في العراق حول دعوات حصر السلاح بيد الدولة، بوصفه اختباراً حقيقياً لمعنى السيادة وبناء الدولة الحديثة. وينطلق من القراءة المحلية للنقاش، قبل أن يتوقف عند الأبعاد الإقليمية والدولية، ليعود في الخلاصة إلى سؤال جوهري: من يمتلك قرار الحرب والسلام، الدولة أم القوى المسلحة؟لم يكن الجدل الدائر في العراق حول مسألة "حصر السلاح بيد الدولة" نقاشاً عابراً أو وليد لحظة سياسية طارئة، بل هو امتداد لسؤال عميق ظل مؤجلاً لسنوات طويلة: أي دولة يريد العراقيون؟ وأي نظام سياسي يمكن أن يستقر في ظل تعدد مراكز القوة، واختلاط السلاح بالسياسة، وتحوّل الفصائل المسلحة إلى فاعل دائم في القرار العام؟من هذه الزاوية، يمكن قراءة المواقف الأخيرة التي صدرت عن قادة فصائل مسلحة وقوى سياسية نافذة بوصفها تعبيراً عن إدراك متأخر لحجم المأزق الذي وصل إليه النظام السياسي، أكثر من كونها مجرد استجابة ظرفية لضغوط خارجية. فالدعوة إلى حصر السلاح بيد الدولة، حين تصدر من داخل المنظومة الحاكمة نفسها، تعكس اعترافاً ضمنياً بأن استمرار ازدواج القوة لم يعد قابلاً للاستدامة، وأن كلفة بقائه باتت أعلى من كلفة تفكيكه.في الداخل العراقي، حرصت أصوات سياسية وأمنية وقضائية على التأكيد أن هذا المسار هو "قرار عراقي بحت"، نابع من الحاجة إلى استعادة هيبة الدولة، وفرض سيادة القانون، وإنهاء مرحلة عسكرة المجتمع. وقد جرى تقديم مبادرة رئيس مجلس القضاء الأعلى بوصفها لحظة تلاقي نادرة بين السلطة القضائية والقوى السياسية المسلحة، على قاعدة أن السلاح لم يعد ضرورة وطنية، وأن الانتقال إلى العمل السياسي هو المسار الطبيعي في مرحلة ما بعد الحروب.هذا الخطاب المحلي اكتسب زخماً لأنه جاء في توقيت حساس، حيث بات واضحاً أن استمرار وجود جماعات مسلحة خارج الضبط المؤسسي الصارم يهدد ليس فقط الاستقرار الأمني، بل بنية الدولة نفسها. فالدولة، لكي تكون دولة، لا يمكن أن تقبل بوجود قوة موازية تنافسها في قرار الحرب والسلم، أو تفرض معادلاتها الخاصة على الداخل السياسي والاجتماعي.غير أن النقاش المحلي لم يكن موحداً أو خالياً من الشكوك. فإلى جانب الترحيب المبدئي بالدعوة إلى حصر السلاح، برزت مخاوف جدية من أن يتحول هذا الشعار إلى غطاء لإعادة تدوير الأزمة، لا لحلها. فالتجربة العراقية، منذ 2003، مليئة بالشعارات الكبيرة التي لم تُترجم إلى سياسات عامة، وبالتفاهمات السياسية التي انتهت إلى تسويات هشة حافظت على جوهر المشكلة بدل معالجتها.من هنا، بدأ السؤال يتخذ صيغة أكثر دقة: هل المقصود بحصر السلاح تفكيك البنى المسلحة فعلاً، أم مجرد نقل السلاح من الفصائل إلى كيانات تحمل صفة رسمية لكنها تخضع عملياً لنفوذ القوى نفسها؟ وهل يعني الانتقال إلى العمل السياسي تخلياً حقيقياً عن منطق القوة، أم إضافة أداة جديدة إلى أدوات النفوذ القائمة؟في هذا السياق، لا يمكن تجاهل أن بعض الفصائل أبدت استعداداً خطابياً للتخلي عن السلاح، فيما رفضت فصائل أخرى ذلك صراحة، أو ربطته بشروط تتجاوز القرار العراقي الداخلي. هذا التباين كشف أن المشكلة ليست في الإعلان عن المبدأ، بل في القدرة على فرضه، وفي استعداد النظام السياسي لتحمل كلفة تطبيقه.ومع اتساع النقاش الداخلي، بدأت المواقف الإقليمية والدولية تتسلل إلى المشهد، ليس بوصفها سبباً مباشراً للنقاش، بل كعامل ضغط إضافي يذكّر العراقيين بأن مسألة السلاح لم تعد شأناً داخلياً صرفاً. فالمنطقة بأكملها تمر بمرحلة إعادة ترتيب، والعراق، بحكم موقعه ودوره، يقع في قلب هذا التحول.إقليمياً، تنظر دول عدة إلى ملف السلاح في العراق باعتباره مؤشراً على مستقبل التوازنات في المنطقة. فوجود جماعات مسلحة ذات ارتباطات عابرة للحدود يُنظر إليه بوصفه تهديداً للاستقرار الإقليمي، ومصدراً دائماً للتوتر. ومن هنا، فإن أي خطوة باتجاه حصر السلاح بيد الدولة تُقابل بترحيب حذر، مشروط بوضوح الإجراءات وصدقية التنفيذ.هذا الترحيب لا ينطلق من حرص على الديمقراطية العراقية بقدر ما ينطلق من حسابات أمنية صرفة. فدول الإقليم تريد عراقاً مستقراً، لا يستخدم أراضيه كساحة لتصفية الصراعات، ولا تُدار قراراته الأمنية من خارج مؤسساته الرسمية. وفي الوقت نفسه، لا تثق هذه الدول بالخطابات ما لم تُرفق بخطوات ملموسة، لأنها تدرك أن السلاح الخفيف، حتى في غياب السلاح الثقيل، كافٍ لإبقاء المجتمع تحت الضغط.أما الموقف الأميركي، فيأتي أكثر وضوحاً وحدّة. فالولايات المتحدة، التي تراقب المشهد العراقي عن كثب، لا تخفي نفاد صبرها من حالة الالتباس المزمنة بين الدولة والفصائل. ومن منظورها، فإن أي حكومة عراقية مقبلة ستكون موضع اختبار حقيقي: إما أن تكون حكومة دولة، أو حكومة تسويات مؤقتة.الخطاب الأميركي لا يركز فقط على نزع السلاح، بل على طبيعة الدولة التي ستدير هذا الملف. فواشنطن لا تعنيها الشعارات، ولا تعترف بحلول شكلية تقوم على تغيير الأسماء أو العناوين. وهي ترى أن نقل السلاح من الفصائل إلى كيانات تسيطر عليها القوى نفسها لا يغيّر شيئاً في المعادلة، بل يعيد إنتاجها بصيغة أكثر تعقيداً.ومن هنا، فإن الربط الأميركي بين ملف السلاح وملفات أخرى، كالعلاقات الاقتصادية والدعم الدولي والاستقرار السياسي، يعكس قناعة راسخة بأن العراق لا يمكن أن يستعيد موقعه الطبيعي ما لم يحسم مسألة احتكار الدولة للقوة. وهذا الموقف، على صرامته، يتقاطع مع هواجس عراقية داخلية، حتى وإن اختلفت دوافع الطرفين.لكن المفارقة أن هذا الضغط الخارجي، بدل أن يضعف النقاش المحلي، أعاد تسليط الضوء على جوهر المشكلة: هل يريد العراقيون دولة حقيقية، أم نظاماً سياسياً يتعايش مع ازدواج القوة إلى ما لا نهاية؟العودة إلى الداخل. الدولة، إذا لم تكن صاحبة القرار الوحيد في الحرب والسلم، تتحول إلى وسيط بين قوى متنافسة، لا إلى سلطة سيادية. وإذا لم تحتكر السلاح، فإن القانون يصبح خياراً، لا قاعدة، وتغدو السياسة امتداداً للقوة، لا بديلاً عنها.إن بناء الدولة لا يبدأ بإصدار البيانات، ولا بتبادل الشكر بين المؤسسات، بل يبدأ بتفكيك البنى التي تنافسها على وظيفتها الأساسية: حماية المجتمع وإدارة العنف المشروع. فالدولة وحدها، في أي نظام حديث، هي التي تقرر متى تحارب ومتى تسالم، وهي وحدها التي تمتلك الحق في استخدام القوة، وهي وحدها التي تحاسب من يخرج عن هذا الإطار.ما يواجهه العراق اليوم هو لحظة مفصلية. فإما أن تُستثمر هذه الدعوات لإحداث تحول حقيقي، يُعيد الاعتبار للدستور، ويضع حداً لتداخل السلاح مع السياسة، أو تتحول إلى محطة جديدة في مسلسل التأجيل. وفي الحالة الثانية، لن تكون الكلفة سياسية فقط، بل اجتماعية واقتصادية وأمنية.إن أخطر ما يمكن أن يحدث هو أن يُختزل مفهوم الدولة في إدارة التوازنات بين الفصائل، لا في فرض القانون. فالدولة التي تساوم على احتكار القوة، تفرّط بأساس وجودها. والدولة التي لا تمتلك قرار الحرب والسلام، لا تستطيع حماية مواطنيها، ولا بناء مستقبل مستقر.لهذا، فإن النقاش حول حصر السلاح ليس نقاشاً تقنياً أو إجرائياً، بل هو نقاش وجودي يتعلق بهوية النظام السياسي نفسه. وهو نقاش يجب أن يُحسم عراقياً، بإرادة عراقية، لكن بوضوح لا يقبل الالتباس: لا دولة مع سلاح خارجها، ولا سياسة مع قوة موازية، ولا استقرار من دون احتكار كامل للعنف المشروع.في نهاية المطاف، لن يُقاس نجاح هذه المرحلة بما يُقال، بل بما يُفعل. فإما أن تكون الدولة أولاً، ويكون السلاح أخيراً، أو يبقى العراق يدور في الحلقة ذاتها، مهما تغيّرت العناوين وتبدلت الخطابات.

المشـاهدات 35   تاريخ الإضافـة 23/12/2025   رقم المحتوى 69254
أضف تقييـم