الثلاثاء 2025/12/30 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 2.95 مئويـة
نيوز بار
غادة الكاميليا..رواية ألكسندر دوماس في عالم الباليه
غادة الكاميليا..رواية ألكسندر دوماس في عالم الباليه
مسرح
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

بهاء بن نوار

 

لم يفكر الفرنسي ألكسندر دوماس الابن يوما أن روايته «غادة الكاميليا» التي نشرها سنة 1848 للتنفيس عن حبه اليائس للغانية مارغريت دوبليسيه وأعاد كتابتها سنة 1852 على شكل مسرحيةٍ، ستصبح واحدةً من أهم أيقونات الأدب الرومانسي، وسينتقل تأثيرُها من عالم الأدب إلى عالم الأوبرا حين يختارها الإيطالي فيردي سنة 1853 لتكون واحدةً من أهم أعماله المأساوية، بعنوان: «لاترافياتا» وبعد قرنٍ وربعٍ، انتقلت إلى عالم الباليه لتكون واحدًا من أهم عروض دار الأوبرا الوطنية بباريس، ومنها إلى بقية المسارح العالمية، مما يمكن عرضُه فيما يأتي:

 

مقدمة مختلفة:

 

أتى باليه «غادة الكاميليا» بمقدمة مختلفة عن بقية العروض الكلاسيكية، ليس فيها أية موسيقى ولا رقص، بل صمت عميق، وأصوات طبيعية، هي أصوات خطوات الحاضرين وهم يذرعون بيت الغانية الراحلة، وأصوات سعال بعضهم أو نحنحته، وما يحدثه تحريك العمال لقطع الأثاث من ضوضاء وصخب، تتخلله ملامح الممثلين المعبرة، وقد استُعرِض جميعهم – باستثناء الفقيدة التي عُوض حضورها الجسدي بلوحة بورتريه معبرة لها، كانت أول ما طالعتنا به الكاميرا – مما مكننا من الإلمام جيدا بطبيعة الشخوص وبما سيأتي من أدوارهم الفاعلة والمؤثرة في مجرى الأحداث.تأتي هذه المقدمة الصامتة لتكون نقطة تناقض وافتراقٍ بينها وبين ما سيأتي بعدها من مقاطع مفعمة بالنغم، يتولى السرد فيها الجسدُ بأكمله لا الوجه، ويتضافر معه في هذا الديكورُ المنتقى بعناية، والأزياءُ، والإضاءة، وموسيقى كونشيرتو البيانو الثاني لشوبان المعبرة، والمفعمة بما لا تحيطه الكلمات من إيحاءاتٍ ومعانٍ عميقة.ولعل أهم ما يلفت انتباهنا فيما يخص الديكور فخامته المنسجمة مع طبيعة الموضوع وطبيعة حياة الشخوص الذين ينتمون إلى أرفع الطبقات، أو يعيشون في كنفها، فكانت المقاعد الوثيرة والستائر المخملية والثريات الفخمة كلها مؤشرات بصرية تحيل إلى ما سبق، وتضطلع بوظيفةٍ وصفية تختزل ما فاضت به الرواية من مقاطع طويلة ترصد أدق تفاصيل الأمكنة ومحتوياتها: قاعة الاستقبال في منزل مارغريت/ غرفة نومها/ منزلها الريفي/ حديقته النضرة/ منزل جارتها برودونس/ ساحة الشانزليزيه/ مقصورة الأوبرا وغيرها.

 

الديكور وسيطا سرديا:

 

ومما لفت انتباهنا في الديكور فضلا عن وظيفته الوصفية الاختزالية الآنفة، اضطلاع بعض أجزائه بوظيفة مفصلية، تتجاوز الوصف لتنفتح على السرد، وتسهم بفاعلية في تطور الأحداث أو في الأقل التمهيد لها، وخير مثال على هذا تلك المرآة الضخمة التي شغلت الشق الأرحب من غرفة مارغريت، وكانت أول ما لفت انتباهنا بتركيز الكاميرا عليها عنصرا صامتا محايدا وعنصرا عاكسا وشاهدا على قصة الحب الوليدة وما سيعقبها من مأساة، فبدت مارغريت وعلى غير عادة النساء الجميلات شديدة الجزع منها، ترقب بتوجس ملامح وجهها وشبابها الذاوي ولا تني تتحسر على حياتها الهشة، الآيلة نحو الزوال، سامحةً لنوبات سعالها الحاد أن تتفجر بعنفٍ أمامها وبدون تحفظ، لتبدأ قصة حبها الجامح وسعادتها الموقوتة أمامها أيضا، فيتحقق من خلال هذا المعنى الجوهري لموضوعة «المرآة» التي تحفل بمعنييْن متضاديْن؛ فبدت من خلالها في هذا العرض صورتان متناقضتان ومتداخلتان في الوقت نفسه؛ صورة سعادة مارغريت وامتلاء حياتها بالمحبين والمعجبين، وصورة أو بالأحرى واقع تعاستها وبؤسها العاطفي وعزلتها النفسية رغم كثرة الجموع حولها.

 

مانون ليسكو والعرضُ داخل العرض:

 

وإلى جانب هذه المرآة المزيفة لواقع حال مارغريت، والبعيدة كل البعد عن حقيقة حياتها ومعاناتها، فقد حوى العرضُ مرآةً ثانيةً بشريةً صادقةً كل الصدق، بدت من خلال مانون ليسكو (Manon Lescaut) التي لم تكن في الرواية سوى عنوان كتاب أهداه لها أرمان، لتتجسد هذه الشخصية وتأخذ لنفسها فسحةً معتبرةً من سياق الأحداث وتطوراتها، فبدت عرضا مسرحيا، كان فاتحة اللقاء بين البطليْن، وخرجت هي وقرينها دي غريو (Des Grieux) كاسريْن الجدار الفاصل بينهما ممثليْن وبين بقية الجمهور، ليؤديا دور المرآة العاكسة لواقع قصة الحب المستحيلة، فتبدو مانون ظلا وصدى لمارغريت، ويبدو دي غريو ظلا أيضا وصدى لأرمان، وقد عُبر عن هذا بوقوف الأربعة متقابلين متخذين وضعية الجسد نفسها وقد جمدت حركتهم بضع دقائق، مما يوحي بتماهٍ عميقٍ بينهم، وبأن ما حدث من نهاية تراجيدية لحب دي غريو ومانون سيكون نفسه ما سيحدث لأرمان ومارغريت.هذا من جهة، ومن جهة ثانية، لم يقتصر حضور مانون على هذا المقطع الافتتاحي، بل أطلت علينا، ورافقتنا خلال ما سيأتي من فصول ومشاهد؛ فنجدها تحضر بعد مشهد المواجهة الحادة بين ديفال الأب ومارغريت وقد تماهت مجددا مع هذه الأخيرة، ونجدها تحضر لدى لقائها الأول بأرمان بعد الفراق الطويل، وتحضر أيضا في الختام، بعد أن استفحلت العلة واقترب الأجل، لتموت الإثنتان معا ميتتهما التراجيدية المعروفة، ليأتي دورها في هذه المقاطع المتفرقة تنبيهيا، استنفاريا، وكأنه دقة القدر وصرخته المحذرة، وإن كانت دقةً رومانسيةً رقيقة، تلوح بعذوبة، وتسري بهدوءٍ، ولكن بحزم سرعان ما تحقق في الختام.

 

دقة التفاصيل:

 

اللافت للنظر في كل ما سبق خفوتُ الإضاءة وتلونها بالأزرق المائل إلى البنفسجي كلما بدت مانون أو لاح طيفها من بعيد، مما يؤكد المعنى المأساوي الذي يتكرس عادةً – وحسب ما يؤكده المختصون – مع هذا النوع من الإضاءة الخافتة ذات الألوان الباردة وهو ما نلحظ تحققه في أغلب الأعمال المقتبِسة لهذه القصة، كما هو الحال مثلا مع الفيلم الأوبرالي «لاترافياتا»(La traviata) للمخرج الإيطالي الشهير فرانكو زيفريللي (F. Zeffirelli) المنتج سنة 1983.وإلى جانب هذا، يمكننا ملاحظة دقة هذا العرض وتركيز صانعيه على جميع التفاصيل، التي من شأنها إثراء المعنى وتعويض غياب الكلمات فيه، فنلمس على سبيل المثال براعةً كبيرةً في محاكاة المشاعر الإنسانية والتعبير عنها، بدت من خلال تردد أرمان وتذبذب مشاعره تجاه ما خاله من خيانة الحبيبة، فكان من الطبيعي أن تتقلب انفعالاته وتتناقض، فيعصف به الحقد حينا، ويحرقه الحنينُ أحيانا، مما بدا بوضوحٍ من خلال مشهد لقائه الأول بمارغريت، وقد بدا فيما يشبه الساحة العامة، حيث نلحظ ارتباكه الكبير لدى رؤيتها، وتناوب موجات الغضب والحب على وجهه، ليحسم أمره أخيرا ويتقدم نحوها ملتقطا باقة الكاميليا التي أوقعتها تحت وطأة المفاجأة، وهو عين ما يمكننا توقعه في أية قصة حب واقعية، حيث يتناوب العشق والنفورُ في الحضور، ويستبد كل منهما حسب الظرف بمشاعر المحب ووجدانه.ويمكننا أيضا ملاحظة دقة توزيع الممثلين وانسجام ذلك مع طبيعة دورهم وما يفرضه سياق النص، فنجد مارغريت في قمة تألقها وجاذبيتها محاطةً دوما بشبانٍ ثلاثةٍ، على غاية من الوسامة والشباب والغنى، نجدهم يلازمونها في ثلاثة مواضع: في بدء العمل قبيل عرض مانون ليسكو وفي الجزء الأول من حفل الفالس، وفي جزئه الثاني، حيث تبدو في غاية التألق والسعادة، وهي تحظى بكل ما يمكن أن تتمناه أية امرأة أو تطمح إليه: الحب والشباب والجمال والمال وهدايا المعجبين، ورعاية الدوق الأبوية. ليختفي هؤلاء جميعا تدريجيا، فنجدها تقصي بمنتهى إرادتها جميع المعجبين بعد أن غدت مكتفيةً بحب أرمان مستغنيةً بغزله عن غزل أي محب آخر. ونجدها بعد أفول هذا الحب واستفحال دائها لا تجد أمامها سوى راعيها الدوق تستند على ذراعيْه في حفل الفالس الأخير، وقد اختفى المعجبون الثلاثة، أو بالأحرى زهدوا فيها، فلم تجد من يراقصها سوى مرافقها العجوز، وقد ارتدت ثوبا رماديا شاحبا وكئيبا، يختزل شحوب نفسها وكآبتها، لتحاول في نهاية العمل وبعد أن يئست تماما من عودة الحبيب أن تعود عنوةً إلى الحياة فترتدي ثوبا مخمليا ناري الإحمرار، وتلطخ خديْها بمساحيق زاهية، وتقصد المسرح كما كانت تفعل في الأيام الخوالي، لتجد المعجبين الثلاثة ومعهم الكونت في انتظارها ولكن بدافع الشفقة لا بدافع الرغبة أو الاشتهاء، ليكون هذا آخر ظهورٍ لها، وآخر محاولةٍ منها لإحياء ما مات من نفسها وبعث ما انكسر من روحها.

المشـاهدات 28   تاريخ الإضافـة 30/12/2025   رقم المحتوى 69427
أضف تقييـم