هنري برجسون فلسفة الحدس، الديمومة وتأثيرها في الفكر الحديث |
فنارات |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب |
النـص :
منال رضوان، ناقد أدبي - مصر هنري برجسون (١٨٥٩-١٩٤١) هو فيلسوف وناقد فرنسي بارز، وُلد في ١٨ من أكتوبر ١٨٥٩ في باريس لأب يهودي بولندي، وأم إنجليزية، وتُعد فلسفته واحدة من أبرز الفلسفات في التاريخ الحديث؛ حيث تأثرت بشكل عميق بالأفكار العلمية والفلسفية التي كانت سائدة في عصره، وقد وافته المنية في ٤ من يناير ١٩٤١. تميز برجسون بمنهجه الفكري الذي يمزج بين الحدس والعقل، مما سمح له بتطوير نظرة جديدة حول الوعي والزمن والحياة (للمزيد ينظر: زكريا إبراهيم، فلسفة برجسون، ص ٢٥)، وتخرج برجسون من المدرسة العليا للأساتذة في باريس، حيث درس الفلسفة والرياضيات، وتأثر بالعديد من المفكرين المعاصرين له، مثل إيمانويل كانط وشارل سانت-بوف. وانطلق في مسيرته الفكرية من نقد الرؤية التقليدية للعقل؛ حيث كان يرى أن العقل ليس الأداة الوحيدة لفهم الواقع، بل هو محدود في استيعابه للأبعاد الحيوية للوجود (للمزيد ينظر: برجسون، التطور الخلاق، ص ١٢) وقد أسس لعمله الفلسفي بمنجزات مهمة، لعل من أبرزها مادة الذاكرة والتطور الخلاق، والمزاج الروحي، والوقت والحرية والتفكير الإبداعي (للمزيد ينظر: إمام عبد الفتاح إمام، مدخل إلى فلسفة برجسون، ص ٤٢). بيد أن المنهج العلمي لبرجسون يظهر في دعوته إلى تجاوز العقلانية التقليدية والتحليل الميكانيكي للأشياء؛ إذ اعتبر أن العقل، في كثير من الأحيان، يختزل التجارب الحية إلى مفاهيم ثابتة، مما يفقدنا الارتباط بالزخم الحيوي للواقع، ومن هنا، ظهرت فلسفته بالدعوة إلى استخدام "الحدس" كأداة معرفية تكمل العقل؛ حيث يُمكن للحدس أن يوفر تجربة حية للأشياء، ويعبر عن الواقع بوصفه تجسيدًا للديمومة والتغيير المستمر (للمزيد ينظر: جون ماكوايري، الفكر الفلسفي الحديث، ص ١٥٦). وأسس برجسون نظريته على مجموعة من المحاور الرئيسية: أولها، كان مفهوم "الديمومة"؛ حيث انتقد التصور التقليدي للزمن كخط مستقيم، ورأى أنه يجب فهمه كحركة حيوية متصلة؛ إذ يرى أن الزمان الحقيقي هو تجربة شعورية تمثل تفاعل الوعي مع الحياة، مما يسمح بفهم العوامل المؤثرة في وجودنا (للمزيد ينظر: برجسون، التطور الخلاق، ص ٣٢) أما المحور الثاني، فتمحور حول انتقاده للفكر الميكانيكي، الذي يُعتبر تجسيدًا لتصورات ساكنة للحياة؛ حيث يُحجم هذا الفكر عن استيعاب العمق الحيوي للوجود (للمزيد ينظر: زكريا إبراهيم، فلسفة برجسون، ص ١٥). وهذا ما جعل برجسون يُشدد على أهمية فهم الواقع بوصفه ظاهرة متحركة لا يمكن اختزالها إلى قياسات ثابتة، والثالث هو مفهوم "الحدس الإبداعي"، الذي يُعتبر الطريقة الأكثر عمقًا في الوصول إلى جوهر الأشياء؛ حيث يتيح للإنسان تجربة الحياة في شكلها المتكامل (للمزيد ينظر: إمام عبد الفتاح إمام، مدخل إلى فلسفة برجسون، ص ٧٩). وتتمثل إيجابيات فلسفة برجسون، في تقديمها رؤية جديدة لفهم الحياة والوجود؛ إذ تعمل على تجاوز القيود التي تفرضها الأنظمة الفكرية التقليدية؛ ففلسفته تُقدّم للإنسان أداة حيوية للارتباط بواقعه، مما يسهم في تعزيز مفهوم الحرية البشرية. كما أسهمت أفكاره في تعزيز فهم أعمق للوعي البشري وتجاربه، مما ساعد في تطور علم النفس؛ إذ تعتبر أفكاره حول الحدس والوعي نقاط انطلاق لعديد من النظريات النفسية الحديثة، مثل نظرية اللاوعي عند "فرويد'' أو الأنا وهي تلك النظرية الأشهر عند "يونغ"؛ حيث مثلت هذه النظريات استجابة لتحديات الفهم التقليدي للعقل (للمزيد ينظر: جون ماكوايري، الفكر الفلسفي الحديث، ص ١٧٩). ومع ذلك، لا تخلو فلسفة برجسون من المثالب والتي أخذها عليه البعض؛ فقد انتقده بعض المفكرين بسبب تركيزه الكبير على الحدس، معتبرين أنه قد يؤدي إلى نوع من الذاتية المفرطة في المعرفة، كما اعتُبرت بعض أفكاره عن الزمن والديمومة معقدة وصعبة التطبيق في مجالات علمية دقيقة تعتمد على القياس والتحليل الكمي على سبيل المثال، ويتضح أن تلك المآخذ قد أضعفت من تأثير أفكاره في بعض السياقات الأكاديمية والتي تحتاج إلى مناهج أكثر دقة وتحديدًا (للمزيد ينظر: إمام عبد الفتاح إمام، مدخل إلى فلسفة برجسون، ص ١١٤). ومع ذلك وعلى الرغم من هذه الانتقادات، فإن تأثير برجسون على الفكر الحديث لا يمكن إنكاره؛ فقد أثرت فلسفته في العديد من الفلاسفة المعاصرين، مثل مارتن هايدغر وجان بول سارتر وغيرهما من الذين استلهموا من مفاهيمه حول الوجود والحرية، كما أضفى تأثيره طابعًا خاصًا على الفلسفات الوجودية التي تبحث في معنى الحياة وتجربة الوعي (للمزيد ينظر: زكريا إبراهيم، فلسفة برجسون، ص ٦٨). وبالمثل، فقد أسهمت أفكاره في تطور الحقول المعرفية الأخرى، مثل علم النفس وعلم الاجتماع، مما يعكس قدرة فلسفته على تجاوز التخصصات الأكاديمية التقليدية؛ من خلال فلسفته، إذ قدم برجسون فهمًا جديدًا للزمن، حيث اعتبر أن الوقت لا يُقاس فقط بالثواني والدقائق، بل يجب أن يُفهم كجزء من تجربة الحياة الإنسانية، وهو ما يعكس نظرة فلسفية عميقة للحياة، تتجاوز الأبعاد الكمية إلى الجوانب النوعية والتجريبية. هذا المفهوم للزمن أثر بشكل كبير على مفكرين لاحقين؛ حيث اعتُبرت رؤيته بمثابة انطلاقة جديدة في فهم العلاقات الإنسانية والتجارب (للمزيد ينظر: برجسون، التطور الخلاق، ص ١٩٤). وفي النهاية، يمكن القول إن هنري برجسون قدّم مساهمة مهمة في الفلسفة الحديثة من خلال رؤيته للوعي والحياة؛ حيث أدت فلسفته إلى إعادة تقييم الكثير من التصورات السائدة. فلسفته لا تزال تلهم المفكرين والباحثين في مجالات الفلسفة وعلم النفس وغيرها من التخصصات، حيث تسعى هذه المجالات لفهم أعمق للوجود وتجربة الحياة، من خلال طرح أفكاره حول الديمومة والحدس، يظل برجسون شخصية محورية في تاريخ الفلسفة، مُجسدًا تطلعات الإنسان نحو فهم أعمق لحياته ووعيه. .................................. الهوامش: ١. زكريا إبراهيم، فلسفة برجسون، دار النهضة، القاهرة، ١٩٨٥. ٢. برجسون، هنري، التطور الخلاق، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار الثقافة العربية، القاهرة، ١٩٩٧. ٣. إمام عبد الفتاح إمام، مدخل إلى فلسفة برجسون، دار المعارف، القاهرة، ١٩٧٩. ٤. جون ماكوايري، الفكر الفلسفي الحديث، ترجمة محمد مهران رشوان، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨٤. |
المشـاهدات 29 تاريخ الإضافـة 27/12/2024 رقم المحتوى 57495 |
مثقفو البصرة وادباؤها يستذكرون السياب في الذكرى الستين لرحيله |
دبي تمنح البروفيسورة ياسمين بلقايد من الجزائر جائزة "نوابغ العرب" عن فئة الطب العام |
ذو الوجهين في القصيدة العربية |
انعتاق إلى روح الشاعر بدر شاكر السياب في ذكرى رحيله 24 /12/1964 |
ما وراء الحدث: استراتيجيات التبئير في (سباق الزوارق) للقاص كامل فرعون |