فلسفة الأدب في الرواية القصيرة جدا رواية (هذيان محموم ) لحميد الحريزي نموذجا |
فنارات |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب |
النـص :
بقلم الأديب حمودي عبد محسن
حيث يشرق الضوء في المعرفة، ويصبح كل شيء مألوفا بمرور الزمن في الفكر التحليلي عندما يتبدل الانبهار النادر للفهم والتفسير والحوار، وينجلي التعجب في التأمل وفق مبدأ الانغماس في البحث عن الواقع الجديد النافع، لبلوغه رقي المرتبة العقلية بكونه تغير في درجة عالية من التجديد لرؤية فلسفة الأدب خاصة وهو يتجاوز الخمول الفكري لإعطاء معنى هذا التأمل الفكري التجددي لاسيما حين يكون المرء كاتبا مميزا وفي نفس الوقت باحثا يتأمل ذاته ويتأمل العالم المحيط به في نصوصه، ويكتشف شيئا نوعيا يتلاءم مع تطور العصر كما هو الأستاذ حميد الحريزي في اطروحته بصدد الرواية القصيرة جدا التي ارتبطت باسمه فهي ممارسة عقلية واعية تستهدف في جذرها التحرر من قيود أنواع وأجناس الأدب، ليدخلنا في خطواته الفكرية من منهج البحث إلى منهج ترسيخ المبدأ كمولود جديد له منبعه الصافي وله ثمرته النافعة، فأطروحته هذه ظاهرة بحثية جاءت من خلال جهد ومثابرة في حقبة زمنية طويلة والخروج بهذه الرؤية التي أثارت جدلا في وسط النقاد والكتاب والباحثين، فقد شكلت مفاجأة تعجبية للجميع، وقد تكون غرائبية للبعض، فالاستاذ حميد الحيريزي ابن النجف التي تقع في أطراف الفرات، وتحيطها الصحراء حيث هوائها العذب، وحيث السماء الصافية بنجومها المتلألئة، وحينما يكتمل القمر بدرا يرسل ضوئه الفضي إلى المدينة، لتمتليء قلوب أهلها بأحاسيس وعواطف جياشة توحد الكون والخيال، لذلك برز منها فطاحلة الشعر االعربي، وبارعي النثر منها، إذ هذه المدينة ارتبط اسمها بالاجتهاد لأن فلسفة الأدب أيضا إجتهاد معرفي مميز يخضع للنقد العقلي بالارتباط مع التأمل الفكري، إذ الاجتهاد لا يشمل فقط فلسفة الأدب وإنما كذلك العلوم الدينية التي تمتلأ مدارسها الفقهية أزقة المدينة فهي تخلو من أمكنة اللهو، فهذه المدينة تزخر بمكتباتها، ويكاد لا يخلو بيتا نجفيا من مكتبة، فكان العلامة مصطفى جواد يزور بعض بيوتها حينما يعلم بوجود مخطوطة أو كتابا نادرا يحتاج إلى مراجعته، فيدخله زائرا مقدرا بحفاوة لأنه من طلاب العلم، ويقدم له الكتاب أو تقدم له المخطوطة، ويقرأها ويسجل ملاحظاته دون أن يستعير الكتاب لأن هناك عادة في النجف أن الكتاب لا يمكن استعارته أو يبتعد عن خزانته. حدث هذا بعد أن ضاعت الكثير من الكتب بسبب الاستعارة ولم تعد إلى مكانها في خزانتها المظلمة. هذه الأجواء العلمية في البحث والتأمل تتيح للمرء أن يتعمق بمعنى وجوده حين يرغم ذاته على إنتاج شيئا جديدا من خلال بحثه وتأمله، وهذا بالضبط ما نجده في إطروحة حميد الحريزي، فهذه المدينة تجبر الصبي تلقائيا وعفويا أن يكون متأملا حالما، ومثابرا في نشوة روحية لأن المدينة تقدر وتحترم المتميز في الشعر والنثر خاصة وأن مبدأ التفكير الحر في النتاج الأدبي سمة مميزة في المدينة، فأهلها لا يعيرون إهتماما للتناص أو التقليد أو الاقتباس، فهم يبحثون عن التجدد، ويتابعون هذا المنجز حتى لو كان في أقاصي الأرض لأنهم تواقون إلى الظاهرة الإبداعية التي تعرف عندهم بمفهوم الإجتهاد، فهم لا يقولون إبداع وإنما يشيرون أن هذا شاعر بلغ الكفاءة المميزة في قصيدته، وذاك شعره مقبول بينما الآخر شعره مذموم، ولا يتفاجأ المرء عندما يذهب إلى العطار أو نساج أو نجار أو حداد أو رجل دين، فيجده يمدح قصيدة ذلك الشاعر لأن فيهيا بلاغة، وفيها حسن قافية ونغمة إيقاعية، ولغة رشيقة، وحكمة، ولا يتفاجأ المرء حينما يأتي له بدليل ما قاله المتنبي أو امرؤ القيس أو الامام علي. هذا كان قبل ستين عاما، ولا أدري الآن مدى فاعلية هذه العادة في المدينة، وأتذكر أنهم لا يعترفون بالشعر الحر، وكانوا يسمونه شعر أفندية مستورد من الغرب أما الشعر الشعبي فلا يصلح إلا للأبوذية أو التعازي أو إثارة الحماس بأهازيجه بالرغم من أنه يحمل صورا شعرية رائعة، فهم كانوا يعتقدون أن هذا الخليط يشوه الشعر العربي الأصيل. لذا سأتناول في هذه الدراسة الموجزة عن أطروحة الاستاذ حميد الحريزي عن الرواية القصيرة جدا، وآخذ نموذجا رواية (هذيان محموم) التي تدخل في سيمة الرواية القصيرة جدا، وأركز على المحتوى لهذه الأطروحة كي أسهل الفهم بالنسبة للقارئ، وأدرجها ضمن فلسفة الأدب من خلال نقطتين فقط. ـ أولا: فلسفة الدهشة في رواية (هذيان محموم): الدهشة تعني أن الظاهرة أو الصورة التي ترى لم تكن مألوفة بل غريبة ونادرة، وتثير المفاجأة في طبيعتها مما تدعو الرآي إلى التفكير السريع في محاولة فهمها مما ينحو ذهنه إلى التفكير البطيء، ليفسرها. هذا يجبره على الانصياع الذهني في التفسير مما ينجلي الانبهار وتخفيف الاستغراب الذي تعرض له الذهن. يقوده هذا إلى رغبة شديدة في حوار الذات الصامت لازالت الدهشة، فتكرار المشهد لمرات عديدة في حينها تستلزم المرء أن يكون كل شيء عابرا بحكم التعود، فتصبح الظاهرة عادة واضحة، وتزال الدهشة، فلم تعد الظاهرة تترك انطباعا مؤثرا، وهنا نقتبس ماورد في بداية الرواية كما في نص ( هذيان محموم) : (كما تتهاوى ورقة صفراء على الأرض بفعل ريح عاتية، عجزت يده عن هش ذبابة أثارت طنينا في أذنه اليمنى، أصابه الهلع والخوف وهو يرى قطيعا من الذئاب مكشرة الأنياب تحاول أن تدهم غرفته بعد أن نجحت في دخول الدار قفزا، صرخ بأعلى صوته بوجه قطيع الذئاب ولكن صراخه لم يثر اهتمام حتى الذبابة التي ازداد طنينها.) فهذا يشير إلى حالة غير أليفة أو بسيطة أو عادية للمرء أي أن هناك شيء غريب يحدث لهذا الشخص مما يخلق للقارئ المفاجأة المدهشة التي تتمحور بجانبها السلبي وليس الايجابي الجمالي، فهي لحظة محيرة في وجود محدود بالزمن، فيتبادر إلى الذهن سؤال: ـ ما حقيقة ما يحدث؟ هذا سؤال لم يكن إلا استجابة منطقية للمفاجأة الذي فيه قلق شعوري ـ حسي في التفكير السريع ثم الانتقال إلى التفكير البطيء الذي جوهره البحث عن الفهم ثم المعرفة. هذا يذكرنا برواية (المسخ) لكافكا سطرها الأول: (عندما استيقظ غريغوري سامسا من نومه ذات صباح عقب أحلام مضطربة، وجد نفسه قد تحول إلى حشرة عملاقة). هنا تكمن الدهشة التي تتعلق بإنسان كعقل وجسد وروح التي حولت جسده إلى حشرة عملاقة في حين أبقى عقله مفكرا، وروحه متكلمة مثلما نجد في مقدمة نص (هذيان محموم) لتكن الدهشة حركة مفاجئة شعورية تباغت أهل بيت الشخص المراد به في الرواية، فالزوجة النائمة قرب زوجها تتعرض إلى رفسة مؤلمة في خاصرتها ، فتنهض فزعة، ويسود في البيت هلع لا مثيل له مما حدث لسيد البيت حامد ثم يغوص البيت في دهشة كابوسية مخيفة، وهنا استطاع الأستاذ حميد الحريزي أن يوظف الدهشة بمنظار فلسفي بحت خاصة إذا تمعنا في أراء الفلاسفة حول مفهوم الدهشة، فافلاطون أول من أشار إليها باعتبارها سمة لا تفارق الفلسفة، لتكون الدافع في البحث عن إظهار الحقيقة بينما تلميذه أرسطو اعتبرها جوهر الفلسفة التي تقود إلى انتاج الافكار، وخير مثال على ذلك بالنسبة لنا هو العالم نيوتن حينما سقطت التفاحة على رأسه، فأثارت دهشته إلى اكتشاف قانون الجاذبية إذ سقوطها من أعلى إلى أسفل حرك فاعلية العقل الفعال. إذن الدهشة تقود إلى التأمل الفلسفي والعلمي ثم في البحث عن السبب سواء ما يخص الطبيعة ومعنى الوجود الإنساني. هنا لابد الإشارة إلى الفيلسوف الصيني جوانج زي الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، وبرز فكره بعد الكونفوشية، وقد ارتبطت فلسفته بالعودة إلى الطبيعة التي كان مولعا بجمالها، وله مقولة شهيرة:(إذا أنت لم تشعر بالحياة، فكيف تشعر بالموت)، وقد كتب قصة موسومة بعنوان (حلم الفراشة) التي ما زالت المناقشات تدور حول ماهيتها، يروي فيها تجربته الخاصة حيث يقول فيها: ( في الليلة الماضية، راودني أنا، جوانج زي حلم بأنني فراشة... فراشة تطير في الهواء وتستمتع بوقتها. لم أكن أدري أنها جوانج زي، وفجأة استيقظت ورجعت إلى نفسي ثانية، إلى جوانج زي الحقيقي. لم أكن أعرف إذا ما كان جوانج زي يحلم بأنه فراشة أم أن الفراشة الآن تحلم بأنها جوانج زي، ولكن لابد من وجود فرق بين جوانج زي والفراشة). هنا نلاحظ أن شخصتين يخلق أحدهما الآخر في حلم بتناسق صوري متوارد بين الوهم والحقيقة، فالحالم جوانج زي شخصية حقيقية، والفراشة التي يحلم بها غير حقيقة مما يجعلنا في دوامة الحقيقي وغير الحقيقي أي الوهم وزيف الذهن الحالم، وفي النهاية لا يوجد شيء حقيقي أي أننا نعيش في الوهم. من هذا نجد أن هيغل يشير إلى أن الدهشة ارتباك مرتبط بالشك أثناء لحظاتها الأولى بينما هايدجر يتبحر في مفهوم الدهشة، وقد جعلها مغطاة في غلاف، وعندما ينجلي هذا الغلاف تحدث المباغتة غير المتوقعة، فتتبين الدهشة. من خلال كل ما تقدم لابد أن نتوقف عن النماذج الثلالثة التي أشرنا عنها: 1ـ كافكا في روايته المسخ: يعالج فيها من خلال الدهشة الاغتراب. 2ـ جوانج زي في قصته حلم الفراشة: يعالج فيها من خلال الدهشة الوهم والحقيقة. 3ـ حميد الحريزي في روايته القصير هذيان محموم: يعالج فيها من خلال الدهشة الهذيان والواقع بنظرة نقدية التي تتجلى فيها الحقيقة بمنعطف الأحداث التي لا تخلو منها الرمزية، ثم تنعطف إلى الشخصية الحميتة ـ الحية. 2ـ محاكاة الواقع فلسفيا: إن أطروحة الرواية القصيرة جدا النثرية السردية ذات سمة الاقتضاب، الايجاز، التكثيف، تغلب عليها حيثيات مرحلة تاريخية معاصرة ببعد تحليلي، ورؤية نقدية للظواهر، والأحداث، والصور لعالم الإنسان، وتفسر حياته المبهمة بطبيعة غموضه، ولغز وجوده، لتكون الرواية مفيدة، وتجد نفسها في رافد أدبي معرفي، يتمتع بأصالته، يستمد مواضيعه من الظواهر المؤثرة على سلوكه في العيش شكلا ومضمونا، لذلك اعتمد المؤلف حميد الحريزي في أغلب رواياته القصيرة على مرحلة ما قبل سقوط الدكتاتورية، وفترة الأحتلال الأمريكي ثم ما بعدها. هذا، وتحمل في طياتها الفكر الإنساني والمثل والأخلاق في مواجهة الاستبداد والقهر، وعلى سبيل المثال ما ورد في رواية (خياط الخزف الصيني) كما يلي: (بعد أن تركنا دارنا الأولى بسبب شجار والدي مع الاقطاعي، ثائرا لكرامته وعدم احتماله لظلمه) فأكثر روايات حميد الحريزي تدين الظلم مهما كان شكله وجوهره، فهذه بنية واضحة كي تأخذ الرواية مستواها الإنساني، وإدانة الاستغلال والظلم بوعي معقول ومناسب، فهو المتمرد ضد الوضع الخاطيء التعسفي، ويرتكز على حقائق تكاد تكون يومية، ويضع لنفسه حيزا من المسؤولية، لفضح سلوك الاضطهاد الذي يعاني منه الإنسان، لذلك فان شخصيات رواياته موجودة في الحاضرة كما هي موجودة في الماضي ما زال الظلم موجود، ويعاني منه الإنسان، فلا توجد تسوية بين الخير والشر، بين الأسود والأبيض، بين الليل والنهار، بين الظلام والنور، بين العدالة والظلم. هنا، تشكل روايات حميد الحريزي جدلية في الظرف التاريخي للإنسان دون تواطيء إزاء تبين أسباب المعاناة خاصة الكادحين من البشر في صيرورة تاريخية تبرز فيها الصعوبات والآلام، فهذا المنهج مدرك للمؤلف، يتبع فيه النقاوة بوعي ضمن الحقيقة الواقعية ـ التاريخية، لذا جاءت الروايات متجانسة في سياق زمني متقلب تتابعي في المعاناة بصياغة ذات تقنية سردية واضحة بروابط الكل بالجزء. جاء ذلك ضمن مفهوم المحاكاة ليس بمعناه التماثل أو التناص أو التقليد وإنما أن الذات تحاكي الواقع في محيطها الواقعي السائد ، وتنقله بدقة، ورؤية نقدية، فيتولد شعور حقيقي لمجريات الحياة اليومية، وبذلك تكون المحاكاة ذات مضمون فلسفي للعقل الفعال، وتكون أيضا نشطة خلاقة متميزة في ذاتها بنقل الواقع بصورته برصانة هادئة صادقة. هذا يعزز مفهوم المحاكاة فلسفيا كدلالة تفرضها التجربة، وتدرك حسيا يقينيا، فحامد في رواية (هذيان محموم) الميت ـ الحي يضفي حالة غرائبية ما بين الواقع واللاواقع، بين الوهم والحقيقة في مدار العادة الأجتماعية السائدة التي نوجزها كما ورد في الرواية: (أخذ الناس يتوافدون إلى المكان للمشاركة في التشيع والدفن)، فهذا الميت ـ الحي يثير القدرة على الانتباه حيث ينصب العقل في تركيزه عليه، فهو يتحدث، ويعطي رأيه بتركيز موجه إلى الأحياء، فتتشعب المفاهيم في الرواية حول ماهية الإنسان، وما الفرق بين الحياة والموت؟ وماذا يعني البعث بعد الموت؟ وما فائدة اللاهوت الديني؟ وتجري شبه محاورة مع فلاسفة ومفكرين ومنهم ابيقور وماركس رغم الاختلاف الفكري بينهما، فالأول يدعو إلى السعادة في فلسفته بينما الثاني يجسد المادية الجدلية في فلسفته، فشخصية حامد الميت ـ الحي يطل في كل مرة خارجا من وجه الموت بمقولة تارة معاتبا وتارة أخرى مؤنبا، ليكشف رؤيته عن الخراب الروحي الذي حل بالناس في حوار خطابي موجه إلى الأحياء من البشر محاولا تبيان سيرته وتجربته الحياتية التي عاشها أشبه بلغز كضحية لعالم قاس كما لو أن وجه الموت يجيب على أسئلة كثيرة عجز الأحياء منهم الإجابة عليها مما يدعوا الأحياء إلى التعمق في استيعاب واقعهم من منظور فلسفي، وتجاوز عجزهم، ليلعب كل فرد دوره في هذه الحياة التي نهايتها الموت، فقد أراد الراوي أن الحياة لا تساوي شيئا دون أثر إنساني، وهذا له ترابط بفلسفة شوبنهاور، وكيغارد، ويذكرني أيضا بأسطورة سيزيف في الميثولوجيا الأغريقية، وكذلك برواية الغثيان لسارتر، ورواية الطاعون لأبرت كامو، إذ السؤال ما الهدف من الحياة؟ هو سؤال فلسفي يراود الفلاسفة منذ زمن قديم، فهذه الرواية القصيرة جدا الموسومة بعنوان (هذيان محموم) تخرج من السرد الشائع كإسلوب، وكرؤية نقدية، ففيها قوة تفكير عقلي، وتحليل بنظرة إلى العالم ذات جودة مضمون، وتشوق، وعاطفة وجدانية. |
المشـاهدات 33 تاريخ الإضافـة 27/12/2024 رقم المحتوى 57497 |
مثقفو البصرة وادباؤها يستذكرون السياب في الذكرى الستين لرحيله |
دبي تمنح البروفيسورة ياسمين بلقايد من الجزائر جائزة "نوابغ العرب" عن فئة الطب العام |
ذو الوجهين في القصيدة العربية |
انعتاق إلى روح الشاعر بدر شاكر السياب في ذكرى رحيله 24 /12/1964 |
ما وراء الحدث: استراتيجيات التبئير في (سباق الزوارق) للقاص كامل فرعون |