الإثنين 2025/1/20 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 10.95 مئويـة
نيوز بار
(ثمارُ السّردِ اللذيذةُ) كولاج تأويل رواية (برزخ الجحيم) لخسرو الجاف
(ثمارُ السّردِ اللذيذةُ) كولاج تأويل رواية (برزخ الجحيم) لخسرو الجاف
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

 علي شبيب ورد

       

        تلَذَّذْتُ حقا بقراءةِ هذا النصِّ الماثلِ أمامي، لما يكتنز عليه من خطابٍ شفيفٍ معتدلٍ، نضحَ من رؤيةٍ باذخةٍ في تطلعها الإنساني النَّيِّرِ، لبزوغِ عالمٍ آخر أكثر سِعَةً وحرِّيًّةً وأمناً ورخاءً. وتلك هي أسمى أهداف الكتابة، فما جدوى النصِّ إن لمْ يقفْ عندَ الكائنِ (بشرا أم سواه) في قبولِ خيرِهِ، ورفضِ شَرِّهِ؟ فالنص بلا موقفٍ جادٍ مؤثّرٍ في القارئِ، لا أهمية له. وهكذا موقف، ربّما يعرِّضُ الكاتب للمساءلةِ والاتهام، إذا ما تطرّفت عينُ الرقيبِ في تأويله. لذا يتطلب أن يتوفّرَ النصُّ على قدرٍ كافٍ من النباهة في منظومة بثِّهِ، عبر تأثيث الفسحة الاتصالية، بشفرات جمالية تبعده عن المباشرة. لقد نقَّبنا في حنايا نصٍّ فاتنٍ وفائقٍ في رقّتِهِ ونصاعةِ لغتهِ، وذلك لأنَّ جميع عناصرهِ كانت منسّقة بدرايةٍ، منحتهُ كفاءةَ أداءٍ، ولذَةَ طعمٍ، لنيلِ وِدِّ المتلقي وجذبهِ واقناعِهِ، على حُسنِ القراءةٍ وخصوبةِ التأويل. (إنَّ نص اللذة كثيرا ما يتصف بالنعومةِ الفائقة والتهذيب، بالمقارنةِ مع نص الاستمتاعِ والسعادةِ وفقدانِ الذّات، الذي في كثيرٍ من الأحيان شاعريا وغير قابلٍ للقراءة)1.       واعتمادا على اطِّلاعنا لكتاب رواية (برزخ الجحيم) للكاتب (خسرو الجاف) الصادر عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق/ ط1/ بغداد2023. سنعمل اجراءً فاحصا لأبرز ملامح، وفقَ أربعةِ كولاجاتِ تأويلٍ، واستدراكٍ، ومُلحَقٍ رؤيويٍّ، وكما يلي:

وثيقةٌ أدبيةٌ/ كولاج تأويل أول:

        ما يتضمّنه النصُّ من كشوفات حول مجريات خراب العراق، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، يبيّن لنا، أنهُ وثيقة أدبية حية، عن حياة شخصية الراوي (عمر أو رشيد) منذ صباه وحتى سجن غوانتانامو. وما يلي يثبت تدخّل دول الجوار (كان أمامنا طريقان، طريق مشهد، أو طريق أصفهان وشيراز. جهاز الاستخبارات الأيرانية <الإطلاعات> أعطونا سيارةً وسائقا، كان مصيرنا في يدِ ذلك السائق الذي كان ضابطا في الإطلاعات) ص29. هذا نموذجٌ واحدٌ من الوثائق السردية الحية، التي كشفها نشاط (عمر) في أزمنة وأمكنة متعدّدة. وفي النص حوادث عالمية، لعبت دورا في توجيه حركة حوادث السرد ووفّرت لها المصداقية المطلوبة، ومنها مثلا (أحداث سبتمبر2001/ احتلال أفغانستان2001/ احتلال العراق2003/ مقتل بن لادن2011).

تحولاتُ الشخصيةِ/ كولاج تأويل ثانٍ:

        (عمر) هو (الشخصية الرئيسية) و(الراوي الشخصي) السارد بضمير المتكلّم المفرد، ومن داخل حكايةٍ مشاركٍ في أحداثها، وبتوجيهٍ من (الراوي العليم) خسرو الجاف. وهو نموذج للأبناء الذين وقعوا في فخِّ أخطاء الآباء، فبدأتْ حياتُه السردية بسجنٍ وانتهت بآخر. غير أنها مرتْ بتحولات عدة، بيت/ مدرسة/ حب، ثمَّ نشاطاتٍ تجاريةٍ مريبةٍ مع قادة تنظيم القاعدة. في الحشيشة والمخدرات والهيرويين والمافيا العالمية. واللافت هو تحوله الفكري المبكر، بعد التعرف على أسرار كبار التنظيمات الإسلامية، إذْ قال عنهم (امبراطورية المسؤولين في هذا العصر، ليست لها علاقة بمساحة جغرافية محدَّدَة، أو بكبر مساحة حكمهم، لكن أكبر مساحة جغرافية لهم هي بالآلاف المؤلّفة من الأغبياء مثلي) ص65. لكن لم تتوفر له الظروف المناسبة للخلاص منهم.

تنوّعُ الأحداث/ كولاج تأويل ثالث:

        إنَّ تنوع الأحداث في أيِّ نصٍّ، يمنحُ منظومتَه الاتصالية قدرة على كسب ودِّ المتلقي، وإغرائه على التواصل القرائي، وابتكارِ نصوصِ تأويلٍ متعددة. وها نحن وجدنا تنوعا في أحداث هذا النص، منها ما هو خارجي (ضرب برج التجارة العالمي/ احتلال أفغانستان/ احتلال العراق/ مقتل بن لادن/ وسواها). ومنها ما هو ذاتي يتعلق بمواقف وسلوك الشخصية الرئيسية والراوي (عمر/ رشيد البغدادي) والذي كان متأثِّرا ومؤثِّرا في حركة السرد وبتوجيه من مخيلة الكاتب (خسرو الجاف). غير أن قول (كاتي) في أحد الأفلام (ها يا رشيد البغدادي، كيف هي أحوالك..!) ص152. وهذا أصغر الأحداث، لكنه أكثرها مضايقة لعمر. ويدعو المتلقي لتصوّر مشاعره بعد هذه الصّدمة، والتَّفكير بتمّعُّنِ في حوادث حياته المؤلمة، وهوَ يغورُ عميقا، في فخاخٍ متناسلة.

تعدُّد الأمكنة / كولاج تأويل رابع:

        وكان لسرعة تحوِّلات حياة (عمر) ونشاط حركته، دورٌ مؤثّرٌ في تعدُّدِ الأمكنة السردية، وبشتى أبعادِها: (غرفة/ وطن). وحدودِهِ: مغلق (سجن) أو مفتوح (خارجه). وانتماءاتها: (قرية/ مدينة/ طريق/ بحر/ جبل/ مزرعة/ سفينة/ سيارة/ طائرة/ الخ). ومن أعالي جبل (قرية سكستان) يقول الشاه سلطان لعمر: (ما تراهُ أمامكَ كلّه مخدّرات، حتى شهرٍ آخر نجمعُ محصولّهُ ونبيعهّ، ونحصلُ على أموالٍ هائلةٍ منهُ، نعطي حصَّةَ الأخوةِ في طالبان والباقي لنا) ص60. وهذا المجتزَأُ يكشفُ هيمنةَ قادة الجماعات الإسلامية، على آلاف الدونمات والهكتارات المزروعة بالخشخاش وشرانق المخدرات، لتوزيع أموالها بينهم بالقوّة. كما أنهم يفرضون الضرائب، وقراراتهم مقيدة للحرّيّات، ومن أغربِها مثلا، من يحلق لحيته، عليه التبرع بالدم، أو يسجن حتى تنبت من جديد.      

استدراك:

        فاتني أن أذكر ما يلي:

- قبل المتن، نقرأ (قبل ثلاث سنوات، نسختُ حوالي مائة نسخة من هذه الرواية، ووزّعتها على أصدقائي على أنها رواية ل <أحدهم>... الخ) ص5. وفيه يعترف الكاتب أن (أحدهم) كان اسمه المستعار، كي لا يكون سببا في إيذاءِ أصدقائه وأقربائه في بعض البلدان العربية التي نشط فيها تنظيما داعش والقاعدة. والرواية عبَّرتْ عن موقفه الإنساني والجمالي، تجاه محنة بلاده آنذاك.   - بعد المتن، نقرأ (ما قرأته أيها القارئ، كتبته في دفترين، وأعطيتهما ل <غزنة> وقامت هي بدورها بطباعتهما في كتاب، وها أنت تقرأه الآن) ص154. وهذا ما قاله الراوي (عمر) ويرتبط بجملته الأخيرة في المتن الروائي (بعد سنتين في السجن، استطاعت غزنة مقابلتي..) ص153. وقد حاول الكاتب إشراك المتلقي في لعبته السردية، المعبرة عن أحداثٍ عاشها وعرفها عن قرب. 

ملحق رؤيوي:

        الرواية عنوانها جازم، فالبرزخ مفترقُ طريقَي (النعيم والجحيم) غير أن الكاتب أرادَ أن يخزَ الجماعات الظلامية، وينبّهَ الأجيال الى خطورة أفكارهم المتطرّفة، لأنهم ذاهبون حتما، الى الجحيم. كي لا تتكرّر مأساة (عمر) الذي وقع في فخ تلك الجماعات المقنعة بالتديّنِ، وتمارس الخديعة والكراهية والقتل والتخريب الاجتماعي. وبالتالي يواجه أعضاؤها مصائرَ غيرَ مجديةٍ لهم وللمجتمع، فعمر وجد نفسه حائرا بين عالم ٍغريبٍ ومستقبلٍ مجهولٍ بلا أجوبة تلوحُ للأسئلة. وكأنَّ تجربة حياته تشبهُ تجربةَ البحار، التي افترضَها (يوفال نوح هراري) بقوله (لو أنَّ أحدَ بحّارةِ كولومبوس، دخل في سبات واستيقظ على نغمة أيفون القرن الحادي والعشرين، فإنّه كان سيجد نفسه في عالمٍ غريبٍ يتعذَرُ فهمهُ، وربما سيسألُ نفسَهُ هل هذه الجنَّةُ؟ أو ربما الجحيم؟)2.

        وانطلاقا من رؤيتنا الواردة في كتابنا (كولاج تأويل)3، فإننا لا نقف عند أيِّ نصٍّ يمثلُ أمامَ جرائنا الفاحص، عبر جعبةٍ نقدية جاهزة، أو وفق مقاييس محدَّدَة، بل نستمد أدواتنا من أهم الملامح المائزة في النص. والنصُّ الماثلُ أمامَنا الآن، فيه ملامح عدة، توزعت على جسدِهِ، كي تزيدُهُ وهجا اتصاليا وعمقا دلاليا. فالراوي (عمر) يقول عن نفسه (إنّني وليدُ الصِّدفةِ) ويقارن بينه وبين الانسان المثقف بقوله (رجل لا دراية لديه بشيء، بدون عقل، ولا تفكير أيضا، يضعُ يدهُ على الحجر فيتحوّلُ الى ذهب. وواحدٌ آخر، ذكيٌّ ومثقفٌ وتراهُ يتمنى لقمةَ الخبز.. إنْ وضعتَ ميزانا بين هذين الاثنين، فإنَّكَ لن تصلَ الى نتيجة، سوى الحكمة الإلهية) ص118. والراوي في هذه المفارقة الصّادمة، يوجهُ رؤيةً نقديةً تهكميةً، الى خللٍ أزليٍّ في بنية المجتمع.

        وبعد ما ذهبا إليه أعلاه، نجد أن الروائي انجز روايتَه اعتمادا على رؤيةٍ إنسانية، وتجربة فنية وأدبية كرّست مشروعَه الإبداعي. وكشفت أن حركة السرد الروائي تنمُّ عن (موقف جمالي aesthetic attitude: موقفٌ يستقلُّ عن كلِّ دافعٍ يتعلّقُ بالمنفعة، أو القيمة الاقتصادية، أو الحكم الأخلاقي، أو العاطفة الشخصية، وإنهُ معنيٌّ بالخبرةِ <من أجلِ ذاتها>.)4. والروائي الجاد (خسرو الجاف) تحلّى بهذا الموقف الصارم، الذي يتطلّب قدرة على تحمّل الصعاب والخسائر، ومواجهة أساليب الترغيب والترهيب، والقبول بالنهايات الجائرة. لأنه لم يهتمْ، إلّا بفتنةِ أنساق النص العلامية والدلالية، وفق تصاميمَ تبارت في تأثيث الفسحة الجمالية بين النصِّ والمتلقي. ونجح في إغوائِنا على التجوالِ في نصٍّ شيّقٍ أخّاذٍ، والتمتّعِ بجنانِ سردٍ، ثمارُهُ ناضجةٌ ولذيذةٌ.    

 

------------------------------

1- كتاب (خمسون مفكرا أساسيا معاصرا) جون ليشته/ المنظمة العربية للترجمة/ ط1 بيروت 2008/ ص260.

2- كتاب (العاقل- تاريخ مختصر للنوع البشري) يوفال نوح هراري/ منشورات الشمال/ ط1 بيروت 2022/ ص 323.

3- كتاب (كولاج تأويل) علي شبيب ورد/ مشروع نقدي – تطبيقات على عينات من المشهد الشعري العراقي/ دار تموز للطباعة والنشر والتوزيع/ دمشق 2013.

4- كتاب (دليل أوكسفورد في الفلسفة) تِد هُنْدرتْش/ هيأة البحرين للثقافة والآثار/ ط1/ المنامة 2021/ ص1479.

المشـاهدات 24   تاريخ الإضافـة 20/01/2025   رقم المحتوى 58248
أضف تقييـم