السبت 2025/2/22 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 12.95 مئويـة
نيوز بار
قصة قصيرة
قصة قصيرة
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

السُلَّم

عبد شاكر:                                                                                                              

الى عبد الحسين فرج.. حيـــّــــــــًا

**

 

أخيرًا أصابَ اليَبَسُ الورقة المورقة في الغصن القديم من شجرةِ حياتهِ الوارفة، حتى لكأنها تكاد تسقط على أديم النهاية المحتمّة للشاعر المحتضر.

وجد نفسه مسجىً باتجاه القبلة وقد جلست زوجته العتيقة عند رأسه، شاكية، باكية، بينما جلس صديقه الحميم إلى جنبهِ،  تمامًا عند منتصف السرير، متمتمًا على غير العادةِ بشيءٍ من الآيات القرآنية.

بعينين غائرتين وملامح وجهِ شاحب، أمسك الشاعرُ بكفي زوجته وأخذ يُقبلهما ويتحدث إليها بصوتٍ مُحشرج:

-- انا آسف جدًا يا زوجتي العزيزة لأنني لم أسعدكِ يومًا.    -ردّت بحزن - لا حاجة لي بسعادةٍ أكثر من أن تعيش معي تلك السنوات القليلة المتبقية من عُمرينا.

كررّ أسفهُ بحزن، مسحت دموعًا اخضلّت بها لحيته الشائبة العريضة، نظر إلى صديقه الجالس بوجوم قبالة سرير الموت، ابتسما لبعض، شدّ الأخيرُ من أزرهِ قائلًا:

-  إياك أن تفعلها أيها السخيف.. ستنهضُ عمّا قريب يا صديق العمر..

 ردّ على صديقه بيأس:

لا تُسهب بقصِّ نكتتكَ الأخيرة لي.. لقد أزفت ساعة الرحيل.. -

 بل أزفت ساعة الحياة والخلود أيها المغامر الشرس..

كم أنت طيب أيها الصديق الصدوق... الحياة؟!! الله.. يا لها من كذبة. -

نشجا معًا، احتضنا بعضهما، أخبر صديقهُ وهو يُقبله... إن الاحتضان يؤلمه.. فكُلَّ ما في جسده موجوع حتى اللعنة.

أجابهُ صديقهُ.. وأنا أيضًا أيها الحبيب.. أشعرُ بوجعٍ في روحي لا يُطاق..

لكنني سأحرص على كتابة ديباجة لافتة النعي التي سنعلقها على جدران.. بناية اتحاد الأدباء.. سأكتبها بلغة الشعر....

--ردّ بصعوبة

- آه.. لافتة النعي، ستكون نهبًا للتُراب وحرارة الشمس.. تمامًا كما هو الحال بالنسبة لقبري...

سيحرص الله أن تكون من أهل الجنة.. -

الشعرُ جنتي...       -

استبدّ به الألم المُمضّ، شعر بتيبس وجفاف فمه، طلبَ ماءً، سقتهُ زوجتهُ شيئًا من الماء المُحلّى بواسطة ملعقة طعام صغيرة، ابتلع الماء بصعوبة، ثم علت وجهه صفرة رهيبة، أغفى لبرهة. تبادلت زوجته نظرات الخوف مع صديقه، لم تمتلك غير أن تهزّهُ برفق، استيقظ فزعًا، شخرَ بقوة، ثم جذب نفسَا طويلًا وزفره بصعوبة، كأنه يستجدي قبضة من هواءٍ وحياة. فتح عينيه ثم أغلقهما ثم فتحهما، طلب من صديقه أن يُجلسه قليلًا، اسنده ذلك الصديق الى وسادتين، لاحظ سقوط رأسه الى الخلف، وارتخاء ذراعيه. أمرهما بإحضار كتبه المطبوعة  ومسوداته وأوراق عبثه الكثيرة. نهضا مسرعين وأحضرا لهُ ما أراد. أبصرهما يضعان نصب عينيه كومة كبيرة من الأوراق والرسائل والصور والشهادات التقديرية الموشومة بالتواقيع الأنيقة الخضراء اللون ومسودات قصائده الأخيرة وخمسة من كتبه المطبوعة.

مدَّ يدًا لا قوة فيها ليناول صديقه الكتب المطبوعة قائلًا:

- أمّا هذه الكتب المطبوعة فلا سلطان لي عليها.. إن هي إلا مُلكُ الناس. وأمّا باقي الفوضى فاحرقها يا صاحبي.. إنها محضُ فوضى وأكاذيب.. ليس إلاّ !!!

ضحكا بألم، بينما واصلت الزوجة بكاؤها الصامت. أخبره صديقه بمسألة عدم التزامه بشق الوصية الثاني المتمثل بأحراق المسودات والرسائل والصور، همس في أذنيه:

-إنها إرثُكَ يا صديقي.                    -رد ساخرًا-

- إنها روثي....

 لم يتمالك صديقه نفسه فانطلق ببكاءٍ مُر، قال:

- إنها أنتَ.. خلاصتكَ الحقيقية يبن الزانية....    

- ردّ ناشجًا -

صدقت.. إنها.. إنها أنا.. خلاصتي الحقيقية. وخلاصي...-

أرجعَ الكُتب الموضوعة أمام صديقه تمامًا فوق طاولة الأدوية وجهازي قياس السكر والضغط ووضعها في حجره، ثم لم يتوانَ عن الانحناء وفتح ذراعيه على سعتهما واحتضان المسودات والأوراق والرسائل كأنه يحتضن الحياة برمتها، ولم يلبث إلا أن يُسلم الروح فجأة، مخلــفــًا وراءه  تلك الصرخات المشروخة لزوجته وصديق عمره.

في السلالم المُؤديةِ إلى الآخرة السرمدية، رأى نفسه مُتحررًا من كل الآلام، شفّافًا، مرتديًا بياضًا ناصعًا، سعيدًا برؤية كل المعارف والأصدقاء الذين غادروا الحياة قبلهُ ناثرًا على رؤوسهم كُلّ القصائد التي كتبها في حياته، مُرتقيًا سًلّمًا نورانيًا منحوتًا من الكلمات.

 

المشـاهدات 89   تاريخ الإضافـة 11/02/2025   رقم المحتوى 59184
أضف تقييـم