
![]() |
قصة قصيرة زهرة التوليب |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص :
فوز حمزة
كل شيء بدا ساكنًا .. الأشجار العارية وأغصانها المجففة التي توحي بالحزن، الأعشاش المتهدمة تخبرك أنّ الطيور المهاجرة قد ضلت سماء العودة منذ زمن. رائحة البرد ملأتْ المكان منذ حلول الشتاء القاسي ضيفًا عليهم، توقفتْ الحياة عن تدفقها .. سرق منهم ألوانهم ليمنحهم رداء الموت الأصفر، وذلك الجدول الصغير المتجمدة مياه، قد جعل للخوف لونًا أبيض. شجرة الباشو العجوز تعد أيامها الأخيرة، ترقب أغصانها وهي تتيبس غصنًا بعد آخر .. ورقة تلو أخرى، لولا جذورها المتشبثة بالأرض لهوت.
- إلى متى سيمكث بيننا هذا الضيف الثقيل، تجمدت المياه في عروقنا، تيبست أوراقنا، متى يرحل ليأتي الربيع من بعده؟ سؤال مثل هذا لم يجرؤ على قوله سوى شجرة البرقوق الفتية. - أوه صغيرتي! ليتنا نعلم جوابًا لسؤالك، لكن من يجرؤ على الحديث معه؟ ردْ شجرة الباشو العجوز المليء بالسخرية والتهكم، لم يقنع الشجرة الفتية، بل جعلها تغلي من الغضب لتقول: - أنا، سأطلب إليه الرحيل لترحل معه عتمة الأمسيات وهذا الصمت القاتل، لون الغيوم الرمادية التي تغطي السماء، يصيبني بالاختناق، سأخبره بكل ذلك، لن أخشاه! صرخت زهرة السوسن التي حفر البرد عميقًا داخل روحها: - احذري عزيزتي، فالشتاء قاس لا يعرف الرحمة، لطالما جرّدنا من كل شيء، انظري لشجيرات الورد تلك، كيف غطاها صقيعه؟! كيف أحرق أوراقها بنار جليده؟! لم يرحم ضعفها. ليس فقط أعمى وأصم، بل عديم الرحمة! الشتاء الذي سمع حديث الأشجار والورود، لم يعلق سوى بـ ( حمقاوات ). اكتفى بترديد هذه الكلمة داخل نفسه، قبل أن يخطو وسط الغابة لينادي بصوته الذي جعل الريح تصفر والمطر يهطل والبّوم لا يكف عن النعيق بينما راح الخفاش يثير الفزع في أرجاء الغابة. قال بعد صمت: - أعرف أنّ مكوثي معكم قد طال، ماذا أفعل والربيع لا تبان بشائره؟ رحيلي مقرون بقدومه، عليكم تفهم ذلك! - ما العمل الآن؟ تساءلتْ شجرة الزيزفون: ردت شجيرة النرجس من تحت أكوام الثلج التي تغطيها: - لم أرَ الشمس منذ أشهر، الموت يزحف إلى جذوري بعد تمكنه من سيقاني! تساقطَ الثلج رعبًا من فوق الأغصان اليابسة حين زمجر الشتاء بصوته المخيف: - كفاكم ثرثرة، حديثكم هذا يشعل البرد في أحشائي أكثر. يجعلني أتجمد غضبًا. ردت شجرة الكالبتوس بعد أن ملأ سعالها الغابة: - ينهار جسدي خلية إثر أخرى، أفضل الموت ممتلئة بالحياة على الموت بردًا. همست شجرة التفاح دون مبالاة: - إنك ترقد على أنفاسنا كما ترقد السماء فوق الغيوم. لم يبد عليه التأثر بحديثها مواصلًا كلامه: - إنْ رغبتم برحيلي، فليذهب أحدكم يترقب قدوم الربيع ويخبرنا بذلك، من يفعل ذلك سيكافأ. - بماذا؟ تساءلت شجرة الأرز بلهفة. - سأدع الحياة تتدفق فيه أولًا، أمنحه كل الألوان، سأهبه ربيعًا طويلًا وأجعله محبوبًا في العيون. تنحنحتْ شجرة الغاردينيا وخبأتْ رأسها كما فعلت باقي الأشجار. بينما شجرة الكستناء راحت تهمس لشجرة التين لتخبرها كم هو أحمق؟! كاد الفرح يتلبس روح الشتاء ويعلن انتصاره على كل الفصول، لولا صوت زهرة التوليب الشابة تخبره موافقتها القيام بهذه الرحلة. قالت بصوت هز وجدان الفصل القاسي: - سأذهب لأترقب قدوم سيد الفرح، بهي الألوان. سأمضي لأمتع نظري بأمير الفصول، سأخبره أن غيابه الطويل قد أجج نيران الصقيع فينا، أنفاس الحنين باتت باردة، سأخبره بحرارة أشواقي التي ولدت من أعماق الزمهرير. حاول الشتاء كتمان شعور الغيرة الذي انتابه، لكن أمطاره الغزيرة ورياحه العاتية وبرده القارس القاسي فضحوه بقوة. مرت أيام طويلة ظنّ الجميع أنّ الموت من البرد هو المصير الذي واجهته تلك الزهرة المتهورة. همست شجرة البلوط لجارتها شجرة القيقب: - اندفاع الشباب يجلب الهلاك لصاحبه. في الضفة الأخرى من الحياة، شعرت زهرة التوليب أن إحساسًا غريبًا ينساب داخلها، أنفاسها الحارة بدأتْ تذيب الصقيع الذي يحيطُ بها، ارتجافها هذه المرة ليس بردًا، بل ولهًا حين لمحت الربيع قادم. لوحتْ له قبل أن يلمسها ويهمس: نادرًا ما يحدث ذلك .. كنت أعرف أنني سألقاكِ .. الأشجار المعتمة أخبرتني بذلك .. سأجعلكِ جميلة وأنتِ ترتدين كل الألوان .. سأمنحكِ ربيعًا طويلًا .. تتفردين دون كلام .. واسميكِ زهرة الحب .. أما زهرة التوليب،اكتفت بقولها وهي مندهشة: لقد رأيتكَ في أحلامي .. انعكست صورتهما في مياه النهر حين ذاب جليده بحرارة أشواقهما، ارتدتْ الأرض كل بهائها، امتلأتْ عنفوانًا، عادتْ الحياة ثانية للحياة عندما تعانقا. منذ تلك اللحظة، وزهرة التوليب أول من ينهض من تحت ركام الثلج لتعلن قدوم الربيع. |
المشـاهدات 50 تاريخ الإضافـة 24/03/2025 رقم المحتوى 60845 |