النـص :
محمد فيض خالد
في كنف هذا البيت الرحب، عاش الشيخ "صبحي" موفور الهيبة، تظلله النعمة، خمسة عشر فدانا ، وطاحونة تزن ليل نهار ، قطيع من المواشي تفيض الجدران بخلفتها ،وأبناء ثلاثة من الرجال ، وعزوة من الأهل لعائلة كبيرة، توفيت عنه " سكينة" زوجته الحبيبة وابنة خاله التي ارتبط بها عمرا، تركته في رعاية زوجات أبنائه ،وماذا يحتاج شيخ طاعن مثله، غير أن يضمن ، هدمة نظيفة، ولقمة هانئة ، لكنه ورغم سنه ،لم يفرط في قوامة بيته ، ظلت بيده مقاليد الأمور يسوسها، عصاه مشرعة بحزم تؤدب كل عاص سيء الأدب ، خاصة زوجات أولاده ، فكل واحدة منهن يراودها إبليسها، أن تخرج عن الوصاية، تستقل بحياتها في دار بعيدة، لا تفتأ " زكية" زوجة ابنه الكبير " عبدالغفار" ، تشكو عدم الانصاف ، تغلي متذمرة فزوجها افنى عمرا في رعاية شؤون البيت والغيط ، فكيف يتساوى و" سمير" ذلك التلميذ المرفه .
صبت فوق الشيخ جام غضبها ، وهي مع ذلك احالت حياة زوجها جحيما ، تذكره ضعفه ، تندب حقه المهضوم ،كيف تحول لخادم أجير لقاء لقمة حقيرة ، وفي كل يوم تطل الفتنة برأسها تطعم" زكية" جذوتها ، حتى وإن تظاهرت بالسكينة، تقول بلهفة الحسير وهي تزفر:" متى يتحقق الحلم ، أن نخرج من بين حيطان هذا السجن المظلم؟!" ، أما كلامها عن المستقبل فكفيل لأن يثير منابع الزهو في نفس زوجها، في ضعف ينساق خلفها دون روية ،يجبر فكره على الإذعان، لكن تظل في قلبه ولولة ، فهو أجبن من مواجهة والده صاحب النعمة ، يهز رأسه مستهينا بالمخاوف ، يجاهد في تعتعة، تتفجر كلماته في كمد :"نعم ، لابد وأن نتحرر ، أن تصبح لنا حياة ، أن يتحقق العدل في هذا البيت" ،مرت الأيام والكلام يرتعش في الدار ، تفوح رائحة ما تحيكه " زكية " ، عندها لم يجد الشيخ من بد ، غير أن يقمع التمرد في مهده ،وعلى العشاء ، التف أهل البيت حول الطعام ، هب الرجل واقفا ، وقد علا شدقيه الزبد، وأشرقت عيناه ، يتوهج فيهما ضياء الشباب ، قال في حسم:" عاشت هذه الدار يدا واحدة، تأتمر بأمري، وستظل، ومن لا يعجبه العيش فيها فبابها مفتوح" ، اجتهد " عبدالغفار" كي يبدو متماسكا ، يسيل على أطراف شفتيه ما يخامر قلبه من الفزع ، بكى حظه ، قال في خنوع:" جميعنا طوع أمرك يا أبي ، لا يجرؤ أحد على عصيانك ، نحن نحيا في كنف نعمتك " ،رمته لحظتها " زكية " من عين حمئة ، بعد قليل ابتسمت ابتسامة مجهدة ، تخفي نيران قلبها ، انصرف الشيخ وسط فورته ،ومن بعدها انغمس الزوجان في أسى مرير، يئنا سويا وقد توزع بالهما ، قررت " زكية" بعد لأي التخلص من عقبتها الكؤود ، اسلمت رأسها لشيطانها ، فقادها لفكرة جهنمية، مشت الأيام في رتابتها ، حتى كان ذات صباح لتستيقظ الدار على وقع صراخ كثيف..
|