النـص :
تمرّ في حياة الإنسان لحظات حاسمة، يجد نفسه فيها مجبرًا على اتخاذ قرارات مصيرية، قد لا يكون فيها خيار "أفضل"، بل "أقلّ سوءًا". ومن بين أصعب القرارات التي اتخذتها في حياتي، كانت الهجرة برفقة عائلتي إلى الجمهورية الإسلامية. كان ذلك القرار منعطفًا كبيرًا في مسار حياتي، لا بل في مصير أسرتي كلها. لست نادمًا على ذلك القرار، حاشا لله. فقد اخترته عن قناعة، وكان في نظري وقوفًا إلى جانب الحق، في وجه الباطل، في زمنٍ كثرت فيه المساومات على المبادئ. ولكن ما آلمني بصدق، هو أن هذا القرار الذي اتخذته منفردًا، انسحب بثقله على أبنائي الذين لم يُستشاروا فيه، ولم يُمنحوا حق اختيار الطريق الذي سيسلكونه. كبر أبنائي وهم يجرّون آثار ذلك القرار، وقد صرّح لي ابني ذات يوم بكلماتٍ لا تزال ترنّ في أذني: "هذا ما جنيته علينا. لقد اخترتَ الهجرة، وتبعناك، ولم يكن لنا خيار. كنا أطفالًا." من جراء ذلك الخيار، حُرم أطفالي من التعليم النظامي، في وقتٍ كان أقرانهم في العراق ينعمون بمقاعد الدراسة. انقطعوا عن الأهل والأقارب، وغاب عنهم الدفء العائلي الذي يحتاجه كل طفل ليكبر متوازنًا. وعندما عدنا من الغربة، عدنا غرباء. نعم، كنا غرباء في وطنٍ غادرناه من أجله. اصطدموا بثقافة لا تشبه ما نشأوا عليه، وتعرضوا للتنمر بسبب لهجتهم التي حملت ملامح الغربة. ورغم أنهم أبناء هذا الوطن، إلا أن الوطن لم يحتضنهم، بل أنكرهم. لم تُتح لهم فرصة التعيين، لأنهم لا يحملون شهادة دراسية، في حين أن "ابن الرفيق البعثي" الذي عاش طفولته بين أحضان الوطن، أتمّ دراسته، وتوظف، وأصبح مسؤولًا. فقال لي ابني في مرارة: "أيّ جناية جنيتها علينا يا أبي؟"
|