الثلاثاء 2025/6/3 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 23.95 مئويـة
نيوز بار
اتحاد أدباء العراق والشِّعر في خيمة العَبْريين (1)
اتحاد أدباء العراق والشِّعر في خيمة العَبْريين (1)
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب ناصر أبوعون
النـص :

 

 

لي ذكريات ثرّة مع العراق عبقها باقٍ في ذاكرتي، فهذا العراق مازال يحمل اللغة في كفيّة يصافح بها العربيّ القحّ، فيرده إلى أصالته التي يتفلّت منها كما يتفلّت السهم من رمية القوس، ويخاطب بها الأعجميّ النافر فيأبّى إلا أن يقع في أسرها ويتعرّب على حين قصيدة أو حكايات من السيرة.. وهنا في سلطنة عمان في مسقط رأس الخليل بن أحمد الفراهيدي يستعيد العراقيّ نفحات تاريخه يوم كان يُشرِّق ويُغرِّب أجداده بخزانة الأدب وينثرون تبرها على رؤس الأعاجم فيتعرَّبون، وتخاصم ألسنتهم الغرابة والعُجمة ويذوبون في موسيقاها تيهًا، ويلثمون شفاه حروفها فلا يفيقون من سكرة عشقها، ويخلعون هويتهم ويرتدونها تحت جلودهم.. هنا في عمان غرّد اتحاد الأدباء، ومازلت تشدو بلابله على أشجار أدواحها، ويتركون لنا الذكريات تسردنا.

(وسائلةٍ عراقي؟ أم عُماني؟/ أضعتَ عليَّ بوصلةَ المكانِ/ فقلتُ لها: سلي روحي ونبضي/ يُجبْك القلبُ في أحلى بيانِ) تحت وطأة هذه القصيدة ترجّل (الجبل الشرقيّ) بـ(ولاية الحمراء) عن حصانه وألقى عباءة النجوم من فوق كتفيه واتكأ على قمر وغيمتين في خيمة (الأديب سالم بن محمد بن أحمد العبري)، وهناك ذبح الشاعر عبد الرزاق الربيعي ذِئب الشك الذي ينهش صدر القلق تحت وطأة اللامعقول المفتوح على كل الأسئلة، ونهض يتوكأ على عصا الشعر، ويهشّ على خراف المعاني ويسوقها إلى مراعي (الأهوار)، وهناك أسند ظهره لنخلة عراقيّة تفرش ظلها سجادةً عشقٍ وعزف على نايٍ من (بوصٍ) أغنية للخلود، فبدّد غيوم الأحزان التي عشّشت ما بين وجع الفرات، وسهاد دجلة، ثم واصل المسير متأبطا قمرا من موسيقى وحطَّ رحله ما بين (القرنة) و(الكرمة) وغمس ريشته في سويداء قلبه ورسم خارطة جديدة للحياة على حائط مبكاه الذي صار بعد لأيٍّ أرجوحةً من فرح معلقة ما بين (مسقط)، و(الكرك) وفتح فَمَّ (كَمَّتهِ)، لِتَسَّاقطُ النجوم صورا شعرية، وجوقة من موسيقى في حجر (جُمانة الطراونة) التي استوطنت ما بين الجلد والعظم. ومنذ (جمانةَ وفرحين) سيظل عبد الرزاق الربيعيّ يحرث (أرض السُّمر)، ويبذر حبّات الشعر، ويستمطر غيم الحُبّ في الأرض اليباب، ويطوي دشداشته ليجمع فيها عُشبة الخلود التي نبتت من عناق حضارتين.

وريثما غادر الربيعي منصة الشعر و(نارُ تسعّرُ في الضلوعِ وخلفه/ النيرانُ تأكلُ في الظلامِ وتشربُ/ وتسدِّد الطعناتِ للظهرِ/ الذي لم تحنهِ سنواتُ عمرٍ خلّبُ/ وأمامه الأيّامُ أشجارٌ ستغدو/ للظى حطبا، فأين المهربُ؟)، جاء الشاعر المهندس وسام العاني يمشي على استحياء من القصيدة ويجلس في كرسيّ الربيعيّ على حطب المعاني المستعرة، فأشعل مواجد القلوب، وحطّت النجوم على كتف القصيدة تطالب بكفلٍ من شِعر في عشق (عُمان) بعد أن استفتح رائعته بقمشة من بلاغة الوصف لو وقعت فوق الصحاري القاحلة لاستنبتت خَضَار الكلمات في قيظها، وأرسلت نسائم الشوق عطرا في ليلها الموحش؛ (فهذه الشمسُ ألقتْ ضوءَها أثوابا/ والبحرُ أودعَكِ الجمالَ وغابا/ ورَسا على عينيكِ طبعُ وسامةٍ/ يكفي لتشتعلَ الجبالُ شبابا).

ولأن الجمهور كان شوّاقًا لغزليات تلامس شغاف القلوب الظامئة، وتبلل الشفاه المتشققة، وتطفيء نيران الحزنِ الواصبة، وتجفف الدموع في المقل السائحة جاء المهندس الشاعر سعيد الصقلاوي رائد قصيدة التفعيلة في سلطنة عُمان ليأخذ الجميع في تطواف حول كعبة القصيدة، ساعيا ما بين (مروة) الصور الشعرية المركبة والمستحدثة، و(صفا) التفاعيل الصافية الجارية في فلج اللغة مرتكزًا على محور الانزياح الدلالي، والتركيبي والإضافي واضعا حدودا فاصلة بين الشعر والسرد ساحبا الاستعارة التنافرية إلى محراب قصيدته انتظار مستفتحا (عادَ القطارُ/ ولمْ تعودي/ لكنْ/ وجودُكِ/ في وجودي).

فلما دخلنا خيمة الشيخ الشاعر العُمانيّ هلال السيابي؛ حضرَ الباروديّ فألقى السمع وهو شهيد، وخلع أمير الشعراء بُردته، فَأَلْقها عَلَىٰ وَجْهِ الشِّعر فأضاء المكان، واستند شاعر النيل إلى جذع (سُمرةٍ عُمانيّة) في ركنٍ غير بعيد يعبُّ من دلاء السيابيّ ويصيخ السمع لأحاديث الجوى؛ فلمّا شرع السيابيّ يشدو مطولاته الوطنيّة، ويرشُّ رصانته عطرا على أعطافنا، نبت الورد في أكمامنا، وأسال الحزن من مآقينا، حزنًا على ماضٍ قد تولّى فمات الدمع في محاجرنا.

تحت خيمة الشعر كان الشيخ والدبلوماسيّ السابق هلال السيابيّ شامخا يسمو بالقصيدة العمودية إلى مراتب البلاغة ما بين رصانة العصر الجاهليّ، وأنوار البيان في العصر الأمويّ، وحداثوية العصر العباسيّ، فجاءت قصيدته رقراقة المعاني، وشفافة الصور، تمتح تراكيبها من معين عربيّ اللغة لا ينضب، وحيضانه ثائرة تتفجّر شاعريةً ممزوجة بشعور صادق متدفق لا يهدأ ولا يستكين، وشعرٍ مطبوع غير مصنوع، وسبكٍ متين وصدق رصين، وجبل مكين لا تهزه ريح الناثرين، من السحرة والمشعوذين الذين دخلوا محراب الشعر العربيّ وعشّشوا فوق منابر الثقافة، في عش "قصيدة النثر" وفقست بيوضهم (صيصان) ممسوخة فكانوا كحالِ المُنْبَتّ لا أرضا قطع ولا ظهْرا أبقى.

المشـاهدات 328   تاريخ الإضافـة 17/05/2025   رقم المحتوى 62988
أضف تقييـم