
![]() |
الخرائط القديمة لا تصلح للرحلة القادمة |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص : يسرّني، قرّائي الأعزاء، أن أشارككم اليوم حديثًا عن قضية شائكة في تفاصيلها، لكنها في جوهرها تمثّل الأساس الذي تقوم عليه الأمم وتنهض به الحضارات. في زمنٍ تتسارع فيه الأمم نحو التقدّم، وتتنافس الشعوب على امتلاك أدوات المعرفة، يقف العراق – بكل ما يحمله من تاريخ وحضارة – أمام مفترق طرق، فإما أن يستعيد عافيته العلمية والتربوية ويشقّ طريقه نحو البناء، وإما أن يستمر في دوّامة التراجع والانهيار. وإنّ الحديث عن التعليم لم يعد ترفًا فكريًا، بل ضرورة مصيرية، لأنه لا يمكن لأي دولة أن تنهض دون أن يُصلح التعليم شأنها ويُصوّب وجهتها.لقد وجدت نفسي أتأمل ما آل إليه وضع العراق بعد عقودٍ من الحروب والمنازعات التي أنهكت مؤسساته، وأثقلت كاهل الإنسان فيه. وكان لا بد، قبل أن أخطّ حرفًا، أن أقرأ الواقع بعينٍ فاحصة، وما طرأ على المنظومة التعليمية من تغييرات. فهدفي من المقال ليس تذكيركم بأهمية التعليم، فقد بات من المسلّمات أن لا نهضة دون علم، ولا استقلال لشعب لا يملك مفاتيح العلم. حديثي اليوم ليس عن أمجاد الماضي، بل عن تشخيص الواقع ورسم الطريق نحو مستقبل نرجوه، يليق بوطنٍ بحجم العراق. فالعلم الآن أصبح قوة ديناميكية تُمكّن الشعوب من تحقيق تطلعاتها الوطنية، وبناء غدها المنشود.وإنّ العراق، بتاريخه العريق، وميراثه الحضاري الضارب في جذور الزمن، ليس بعيدًا عن هذا الفهم.لقد أفضت عقود من الصراع، وغياب الاستثمارات، والحصار الاقتصادي الخانق، إلى تدمير البنية التعليمية في العراق، تلك المنظومة التي كانت تُعدّ يومًا من أفضل أنظمة التعليم في المنطقة العربية وأكثرها تطورًا. أما اليوم، فإن هذا النظام يعاني من اختلالات عميقة ومتعددة، لعل أبرزها تراجع مخصصات ميزانية التعليم، وتدهور البُنى التحتية، لا سيما في المدارس الواقعة ضمن المناطق الفقيرة والمهمّشة.وتزيد الطين بلّة المناهج الدراسية القديمة التي لم تعد تواكب متطلبات العصر، ولا تستجيب للمعايير الحديثة في جودة التعليم، حيث لا تزال تكرّس الطابع النظري الجامد، وتغفل الحاجة إلى إعداد قوى عاملة ماهرة قادرة على تلبية احتياجات سوق العمل. وهو ما ينعكس بشكل مباشر على تفاقم البطالة، وارتفاع نسب التسرّب الدراسي والرسوب، لا سيّما في المرحلة الابتدائية، التي يُفترض أن تكون الأساس المتين لكل بناء معرفي لاحق.أما على صعيد الكوادر التعليمية، فإن قلّة عدد المعلمين الأكفاء، وغياب برامج تدريب مهنية مستمرة تواكب الأساليب التربوية الحديثة، أدّيا إلى تدنّي مستوى الأداء التربوي. ناهيك عن غياب أهداف تعليمية واضحة ومتماسكة، وعدم وجود سياسة تعليمية تستند إلى الأدلة والمعايير العلمية في التقييم والإشراف والمحاسبة، مما أضعف من قدرة المؤسسات على مراقبة أداء المعلمين ومساءلتهم عن التقصير إن وقع.ويُضاف إلى ذلك النقص الحاد في البحث التربوي والإداري والأكاديمي، الذي يُفترض أن يكون ركيزةً للتخطيط والتطوير، فضلًا عن التأثيرات الخارجية والداخلية التي لا يمكن إغفالها؛ من التدخلات السياسية في القرارات التربوية، إلى البيروقراطية المتوغّلة التي تُعيق الإصلاح.وفي ظلّ هذه العيوب المتراكمة، ستواجه وزارتا التربية والتعليم العالي والبحث العلمي تحديات جسيمة في طريق استعادة التوازن، والعودة إلى ظروف طبيعية تُمكّن من إعادة بناء هذا القطاع الحيوي تدريجيًا، وبما يليق بتاريخ العراق ومكانته وطموحات أبنائه.وبرغم ثقل التحديات وتشعّبها، إلا أنها تُخفي في طيّاتها فرصًا عظيمة للتغيير والتطوير. فالعراق بلدٌ فتيّ، يشكّل الأطفال والشباب النسبة الأكبر من سكانه، وهم الثروة الحقيقية التي سيُبنى عليها مستقبل الوطن. إن تمكين هذا الجيل، وتفجير طاقاته الكامنة، هو السبيل لنهضة شاملة تقود البلاد نحو التقدم والاستقرار.ولكي يتحقّق هذا الحلم، لا بد من خطوات جادة تبدأ برفع ميزانية التعليم وتخصيصها بما يتناسب مع الحاجات الحقيقية لهذا القطاع. كما ينبغي تحديث المناهج الدراسية بشكل سنوي، بالتعاون مع خبراء تربويين دوليين، وبما يُراعي احتياجات الدولة، بعيدًا عن أي تمييز مذهبي أو إثني، لتكون مناهج موحّدة جامعة، تُكرّس روح المواطنة والانتماء.كما أن تأسيس مؤسسات مهنية تُعنى بتطوير مهارات المعلمين في جميع المراحل التعليمية، وتعزيز نظام الإشراف والمساءلة، ووضع نظام امتحانات صارم ونزيه خالٍ من الممارسات غير القانونية، هو من أهم ركائز الإصلاح. إلى جانب ذلك، ينبغي غرس ثقافة البحث العلمي داخل المؤسسات التعليمية، وتسريع وتيرة البرامج التي تُعنى بالدراسات التربوية والتطويرية.وأخيرًا، فإن وجود إرادة سياسية صادقة من الحكومة، تُنفّذ البرامج الإصلاحية دون تسويف أو تأخير، هو مفتاح التحوّل الحقيقي. فالعراق بلدٌ زاخر بالثروات، لكن هذه الثروات لا ينبغي أن تُهدر في دوّامة الصراعات والمغامرات العسكرية، بل يجب أن تُسخّر لتحسين حياة الإنسان، ورفع مستوى رفاهيته، وتطوير عقله وفكره.لقد آن الأوان لأن نحلم، وأن نترجم هذا الحلم إلى فعل، وأن نغيّر واقعنا بأيدينا، لا أن ننتظر من يصنع لنا مستقبلًا لا يشبهنا. آن أوان النهوض وبناء مجتمعنا وفق الرؤية التي نرتضيها لنا ولأبنائنا، مستقبلًا يليق بكرامتنا ويضمن لنا تعليمًا يؤسس لإنسانٍ حرّ، واعٍ، قادر على العطاء والبناء.ولا ننسى أن اليابان، بعد أن دُمّرت في الحرب، اختارت أن تبدأ من التعليم، فنهضت في سنوات قليلة، وأصبحت مثالًا يُحتذى في التطور والانضباط والازدهار. ونحن، أبناء العراق، لسنا أقلّ شأنًا؛ نحن أهل الحضارات الأولى، وأرض العلماء والمفكرين، والتاريخ شاهد على ذلك.فإذا أردنا لهذا الوطن أن ينهض، فلا طريق لذلك سوى إصلاح التعليم. فإن صلح التعليم، صلح الوطن. |
المشـاهدات 95 تاريخ الإضافـة 15/07/2025 رقم المحتوى 64779 |