الخميس 2025/11/13 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
السماء صافية
بغداد 11.95 مئويـة
نيوز بار
قصة قصيرة وهم الحرية
قصة قصيرة وهم الحرية
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

 

حاتم حسين

تسرّبتُ من بينهم كغريق يخرج من بحرٍ لُجّيّ. خطواتي كانت ثقيلة، جسدي يرتجف، وأنفاسي تصطدم بجدارٍ غير مرئيّ. حتى الهواء كان يتردّد قبل أن يدخل إلى رئتيّ.

لم تكن تلك المرة الأولى التي أواجه فيها الموت، لكنّها كانت الأشدَّ وطأةً. للحظة قصيرة صدّقت أنّني خرجتُ حرًّا.

كلّما اقتربتُ من الحرية، وجدتُ نفسي أقرب إلى قضبانٍ جُدُد. وكأنّها قضبان لا تُرى، تطوّق الروح كما تطوّق الأسلاكُ الشائكةُ الجسد.

في الطريق إلى البيت، ظلّت كلمات المرأة التي جلست بجانبي ترنّ في أذني. حين شعرت بلساني المحبوس يرفض أن يمنحهم اسمي، قالت هي بسرعة:

"إنّه أبكم… لا يتكلّم."

بكذبتها الصغيرة فتحت لي مخرجًا واسعًا للحياة. فأيّ حرية هذه التي تحتاج إلى كذبة كي تبقى حيًّا؟

ذلك الرجل الذي أنتمي في عقيدتي إليه، كانت صورته معلّقة في بهو الضيوف يوم تمّ الاتفاق مع أحد الباعة على شراء سيّارتي. لم تكن مجرّد صورة على جدار، بل صارت ضمانًا لنجاتي. وصوته الغائب درعًا يحرسني في غيابه.

عندها فهمت أنّ الحرية هنا ليست في قولك الحقيقة، بل أن تنجو بوجهٍ آخر، أو بظلّ رجلٍ أحببته وآمنت به. الحرية تُقاس بالرصاصة التي لم تُطلق عليك، لا بالخطوة التي مشيتها.

تلك الليلة صعدتُ إلى السطح. السماء كانت صافية، النجوم لامعة، لكن أزيز طائرات الأباتشي المخيف، على غير عادته، ملأ السماء. مددت بصري إليها كأنّي أفتّش عن جوابٍ مركونٍ بين الكواكب، لكنَّ أصوات الرصاص في الشوارع مزّقت انتباهي وتأمّلي. كلّ طلقة كانت تسحبني إلى الأسفل، وتقول لي: "لا تبحث عن الحرية هناك. إنّها محاصرة تحت الأقدام الثقيلة."

جرّبت أن أخرج لأرى العالم… فرأيته مثل مرآة مكسورة، تعكس ألف صورة، لكنّك لن تستطيع أن تلمس واحدة منها. كلّ صورة كانت حريةً ناقصةً، مبتورةً، باهتةً، كأنّها حلمٌ يتفتّت على زجاجٍ متصدّع.

في الصباح عزمت أن أخرج من جديد. خلعت عن جسدي كلَّ ما يمكن أن يكون قيدًا: هوية، هاتف، اسم، دليل على وجودي. مشيتُ كظلٍّ لا يحمل شيئًا، وظننتُ بذلك قربي من جوهر الحرية.

وعند أول نقطة تفتيش اصطدمت العيون بعينيّ. حين أنزلوني من "الكيّة" فتّشوا موبايلي، فوجدوا اسم ذلك الرجل المشتري الذي ظهر أنّه قائد كبير، وسألوه عنّي، فتمّ إخلاء سبيلي.

ابتسمتُ في سرّي، ولم أجب. لم يكن لديّ جواب، ربّما لم أعد بحاجة إليه. ضحكت كمن فهم اللعبة أخيرًا: الحرية ليست في المرور بلا تفتيش، بل في أن تقتنع أنّ ما تحمله لا يستحق أن يُصادَر.

ومع ذلك، بقي في أعماقي عصفور جريح يرفرف بصعوبة، كان يقول لي: "إنّ الحرية ليست وهمًا كلّها… لكنّها بارعة في التخفي."

مشيت طويلًا. كنت أظن أنني أعبر المدينة، لكنّي اكتشفت أنني أعبر نفسي. هناك فقط وجدتها: الحرية، مختبئة في زاوية مظلمة من داخلي. مددت يدي إليها، فذهبت بعيدًا وغارت في سماء أخرى لا أصلها.

في الأزقّة كنت أرى وجوه الناس. كلّ وجه يروي قصة قيد: رجل يخاف أن يرفع صوته، امرأة تكتم دمعتها، طفل يلهو وعيناه تتوجّسان صرخة مجهولة. عندها أدركت أنّ الحرية ليست فردًا ينجو، بل جماعة تتنفّس بلا خوف. وما دام الخوف يملأ الهواء، فلن تكون هناك حرية، بل ظلال حرية.

جلست عند نهر دجلة المحاصر في منسوبه. الماء يجري بلا مبالاة، لا يعترف بالحواجز ولا يكترث بالدوريات. قلت في نفسي: الحرية تشبه هذا الماء. قد تُقيَّد بسدود، لكنّه لا ينسى طبيعته. يظلُّ يبحث عن منفذ، عن شقٍّ صغير يتسرّب منه، حتى لو طال الزمن.

مع الغروب عدت إلى بيتي. الليل يتسلّل ومعه هواجسي. لم أنم تلك الليلة. كنت أسأل نفسي: هل ما مرّ بي كان حريةً حقًا، أم مجرّد فسحة قصيرة بين قيدين؟

كنت في غمرة تلك الأحاسيس والتساؤلات، وما جرى لي خلال اليومين من هذا الحدث الجلل الذي كاد أن يقبض على حريتي وينهي حياتي في تلك اللحظة التي تشعر فيها أنّك في المركز، في النقطة الأضعف. بقيت ساهرًا أتساءل حتى بزوغ الفجر، لكني لم أجد جوابًا.

اكتفيت بالصمت، وتركت النافذة مشرعةً. لعلّ الريح التي دخلت كانت تحمل شيئًا يشبه الحرية… أو وهمها.

تنفّستُ الصعداء، وحمدتُ الله أنّي لم أقع بين تلك المخالب التي لا تنتمي إلى فصيلة البشر.

المشـاهدات 57   تاريخ الإضافـة 12/11/2025   رقم المحتوى 68183
أضف تقييـم