الإثنين 2024/5/6 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 22.95 مئويـة
قصتان قصيرتان
قصتان قصيرتان
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

حميدة جامع

كاتبة وقاصة من المغرب.

1

الرضيع

 

يزحف متنقِّلا بين الجثث. ينظر يمنة ويسرة. تسيل الدموع من عينيه، يصرخ بصوت متقطِّع. يتوقَّف عند جثَّة هامدة، يتلمَّس وجهها بحنوٍّ، ثمَّ يطفق يقبِّلها ويلثَم وجنتيها وأنفها وشفتيها وجيدها ، إلى أن يصل إلى صدرها ..تتسلَّل يداه إلى ثديها ، فيخرجه ويمتصُّه برَويَّة وطمأنينة، ثمَّ يُعيد الكرَّة مرَّات ....يضرب الأرض برجليه وهو مضطجع على بطنه. يتسلَّقها مرة ثانية ، ثمَّ يعيد المحاولات لعلَّه يحصل على رشفة تروي ظمأه وتهدِّئ روعه، جوعه، يصرخ من جديد ...ويزداد التصاقا بالجثَّة .

 

في هذه الأثناء تصل فرقة الإنقاذ وتبدأ بالبحث عن أحياء بين الجثث والأشلاء.

فجأة، يُسْمَع دويُّ انفجار على مرمى حجر. يفِرُّ الجميع إلاَّ سيِّدة تطوَّعت وانتسبت مؤخَّرا إلى فريق الإنقاذ .

 

يُصاب بالرُّعب الشَّديد، ويزداد التصاقا بالجثَّة ويعاوِدُ مصَّ الثَّدي بقوَّة وانفعال، يصرخ ثمَّ يستكين إلى جانبها في استسلام تامٍّ .

تُواصل السَّيِّدة البحثَ بشجاعة وتحدٍّ وكأنَّها لم تعُد تهتمُّ لشيء في هذه الدنيا، أو لم يعد لديها ما تخسره ....

الحقيقة أن هذه السيِّدة فقدت رضيعها قبل ثلاثة أيَّام فقط أثناء غارة جوِّيَّة على حيِّها. حليبه مازال يسري في ثديها وينزل قطرات ساخنة ليُبَلِّلَ صدريَّتها وقميصها .

تنهَّدت السيِّدة بضيق وامتلأت عيناها دمعا وهي تُرَدِّد  : الأوغاد ....المجرمون ....القتلة..لقد كان   هادئا، جميلا ...كان يشبهني..

تنخرط في موجة من البكاء والنُّواح ...

بعد برهة، تكمل البحث عن أحياء، فتصل إليه وقد تكوَّم فوق صدر أمِّه ..طفل لا يتجاوز السّنة من عمره ، وقد أطبق فمه على ثدي الجثة ، وأسلم روحه قبل الأوان .

2

الزوبعة

يقبع في سفح الجبل، يرفل في بياض الصمت وقد نبت التعب في جفونه وأزهر، وغفا معه ثم صحا، في انتظار تساقط نوع رفيع من الصخور ...صخور متشابهة يتغير لونها كلما دنت من الأرض ....

ابنة خالته التي تتقن فنّ العيطة وخصوصا فن أَعَيُّوعْ الجبلي كانت قد انتهت للتو من الحصاد، يدها اليمنى تبقيها في وضع المتأهب لحمل المنجل طيلة الوقت .....

تقول ضاحكة: لا حظّ لي مع الرجال.. لا أحد يتزوج هذه الأيام.....

تهيم الشمس في السماء فتهوي وراء الجبل تائهة مسلِّمَة مقاليد الكون للدجى.

 قفل العربي عائدا إلى منزله، وفي طريق العودة، التقى شيخ القرية، نصحه بالزواج من ابنة خاله السعدية التي صارت عانسا، والابتعاد عن عادة انتظار تساقط الصخور.

أومأ برأسه دون أن يتكلم أو يحرك شفتيه حتى.

في صغره، سبق له أن توارى عن الأنظار صحبة السعدية ...يوم عقيقة أختها .... كانت عنيدة، سريعة الغضب، تصعب السيطرة عليها ...لم تصل شفتاه إليها بعد، حتى صرخت بقوة. فتمّ إخراجهما من تحت المائدة حيث كانا يختبئان وانهالت عليهما الركلات والصفعات ..... منذ ذلك الوقت كره اجتماع العائلة .... ووجوه أولاد خالته كلها...كان يتفادى اللقاء بهم.   لا بل، أصبح يكره الأعياد والمناسبات العائلية جميعها. شيخ القرية لم يكن حاضرا حينها. كل مازال عالقا بذاكرته ابتسامة السعدية الصفراء وهي تصفع وتركل، ولم يعرف لحد الآن سببها ...السعدية لم تذرف دمعة واحدة.. ولم يعرف لحد الآن لماذا؟ لم تبد خوفها أو ندمها ...لم تحتج ...لم تتحدث في الموضوع، ولا يظن أنها فعلت يوما.

عكسه تماما، فقد انتحب كثيرا، خصوصا عندما أحس بآلام مبرحة ووضع يده على شفتيه ليتفطن إلى الدماء تسيل بغزارة منها.

بعد تلك الحادثة، التقيا مرارا في المراعي وعند السقاية، لكنهما لم يقتربا من بعضهما البعض، ولم يتحدثا قط.

في المساء، امتلأت السماء غيوما عقيمة واكفهرّ الجو. أحس بغمة وضيق في التنفس، وبمطارق تهوي فوق رأسه وبصداع شديد. في تلك اللحظة، قرر الرحيل، رحل ليلا ولم ينتظر بزوغ الفجر.

بعد مدة من الزمن، سمع أن رجال القرية كلهم قد رحلوا ليلا .... وأن السعدية أدمنت أعيُّوع، وسرعان ما انتقل الداء واستفحل بين نساء القرية.

ذات صباح ارتفع صوت نساء القرية ودوّى في الأرجاء مشكلا زوبعة رملية.  أحاطت الزوبعة بالجبل وحاصرته، وأجبرت الصخور على التساقط من الأعلى. لكنه حينها كان قد هاجر ولم يعد يفكر في العودة.

أعيوع: لون غنائي جبلي يؤدى بالتناوب في الحقول  بين نساء مناطق جبالة في الشمال الغربي للمغرب تنصب مواضيعه حول هموم المرأة.

العيطة: موسيقى شعبية عرف بها سكان منطقة جبالة في الشمال الغربي للمغرب.        

المشـاهدات 51   تاريخ الإضافـة 08/03/2024   رقم المحتوى 41351
أضف تقييـم