الغَرَائِبِيَّة سَبِيْلًا لِرَصْدِ الهَمّ الإنْسَانِي.. قِرَاءَةٌ فِي رِّوَايَةِ (عَصْر الغِيَاب) للأَدِيْب حَسَن المُوسَوِيّ |
فنارات |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب |
النـص : لطيف عبد سالم كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، فإنَّ عُنُوانَ الكِتَاب - مِنْ أيِّ جنسٍ أدَبِي - لَمْ يأتِ مُصَادَفَة أو اِعْتبَاطًا، وَإنمَا يَتُمَ اِنْتخَابه بِرُويةٍ؛ مِن أَجْلِ غَايةٍ في تَفْكيْرِ الْمُؤَلِّف تَتَجَسَّد في تَحْدِيدِ هُوِيَّة الكِتَاب وَالإشَارَة إلى مَضْمُونِهِ، إذْ أنَّ عَتَبةَ العُنُوان تُعَدُّ بِوَصْفِها مِن العَتَبَاتِ المُهِمّة؛ لأنَّهَا تمثل بَوَّابة دُخُول القَارِئ إلى الكِتَاب، أو أنَّهَا كَمَا يُقَال بِمثابةِ جِسْر التَّواصل مَا بَيْن القَارِئ والكِتَاب، فالعُنُوان يَنْظر إِلَيْهِ غَالِبِيَّةِ النُقَاد وَكَأنَّهُ بِطَاقَة الكِتَاب التَّعْرِيفِيَّة. وَبِحُدودِ مَوْضُوع بَحْثنا الحَالِي، لَيْسَ ثَمَّةَ شَك في أنَّ القَارِئَ يتفاجأ قبل أنْ يهمَّ بِتصفحِ رِّوَايَة (عَصْر الغِيَاب) الصادِرَة عَنْ دارِ النُخْبة المِصْريَّة، بِمَا اِخْتارَ كَاتبها الرِوَائِيّ الأَدِيْب حَسَن المُوسَوِيّ مِنْ عُنْوَانٍ صَادمٍ ولَافِت للانْتِبَاه؛ بغية التَعْبِيرِ عَنْ مَضْمُونِها علَى نَحْوٍ مُؤثرٍ مِنْ شأنِهِ توجيه قراءتها، إلى جَانِبِ الإسْهَام الفَاعِل في النَفاذِ إلى قَلْبِ الْمُتَلَقِّي. وَبِالاِسْتنادِ إلى مَعَاجِمِ اللُغَة العربيَّة، فإنَّ اِصْطلاحَ العَصْر بِالمَفهُومِ التارِيخِي يُقْصَد بِهِ التَوْقِيت، أو الزَّمَن، الذي يُطْلَق على مُدَّةٍ زَّمَنِيَّةٍ لهَا خصائص تُميزها عَنْ غَيرِهَا مِن العُصُور؛ لذَا يُنْسَب العَصْرَ إلى مَلِكٍ أَو دَّوْلَة، كَالعَصْر الإسْلَامِي، أَو قَدْ يُنْسَب إلى تَطوُّراتٍ اِجْتماعيَّة مثل عَصْر النَّهْضَة، أَو إلى تَغَيُّراتٍ حَضارِيَّة مثل العَصْر الحَجَرِيّ، عَصْر الذَّرَّةِ. وَمِنْ هُنَا يَتَّضِحْ لنَا جَلِيًا أنَّ سِيمِيائيَةَ عُنْوَان رِّوَايَةَ (عَصْر الغِيَاب) تُشِير إلى غِيابِ شَخْصِ مَا أو أكْثَر لِغَايَةٍ مَجْهُولَة، في مكَانٍ غَير مَعْرُوف للآخَرِيْن، إلَا أنَّ رؤيَتِي كَمُتَلقٍ تَذْهَب إلى مَا هُوَ أَبْعَدُ مِمَا قَدْ يَتبَادر إلى الذَهْنِ، وَكَمَا سَنَرَّى ذلكً في نهايةِ هَذِهِ الورَقةِ. تتحدثُ رِّوَايَة (عَصْر الغِيَاب) عَنْ سِيرةِ طالبٍ ينْحدِّر مِنْ قرْيةٍ رِيْفيَّة تتبع إدَارِيًا إحْدَى مُحَافظَات البِلَاد، وَالذِي اِتْسمَ بِتفوقِهِ في دِرَاستِه الجَامِعِيَّة، بالإضافةِ إلى مَا لَهُ مِنْ مَيْلٍ، أو نَزْعةٍ نَحوَ الأَدب: "في الأيام الأولى لوصولي إلى العاصمةِ لم أكن راغبا بالاحتكاك في العالم الخارجي لذلك انطويت على نفسي زاهدا عن الدنيا ما عدا شيء واحد فقط كنت مقبلا عليه وبشغف انه صديقي الكتاب.. مكتبتي المتواضعة كانت رفيقة سفري فأينما أذهب كانت تذهب معي وقد سعدت أنا بهذه الرفقة الجميلة"...... ص(8). وفدَ بطل الروَايَة، إلى بَغْدَاد خِلَافًا لِرغْبةِ والده، بعدَ أنْ تخرجَ مِنْ إحْدَى جَامِعاتها المرمُوقَة؛ بَحْثًا عَنْ وظِيفةٍ بِمقْدورِهَا أنْ تؤمن لهُ ما كَانَ يصبو إليه مِنْ رَغْبةٍ جَامِحةٍ في بناءِ مُسْتقبلٍ يُضِيء حَيَاته وحَيَاة عائلته، إلا أنَّهُ واجه الإحْبَاط مُنْذُ بِدَايَةً مَقْدَمه إلى العَاصِمةِ، وَالذي تزامن مع مَا أفْرزت الأحْداث التي عاشتها البِلاد مِنْ تَدَاعِياتٍ مؤثرةٍ: "إنه اليوم الأول لي في مدينة بغداد والتي وصلتها بعد أن تركت قريتي باحثا عن فرصة عمل تناسب مؤهلاتي. كان استحقاقي هو أن اتعين معيدا في نفس الجامعة التي تخرجت منها كوني الأول على الجامعة وعلى هذا الأساس قدمت طلبا على أمل أن يظهر اسمي في قوائم التعيين"....ص (7). تعثرَّت خُطاهُ بدايةً في الحُصُولِ على ملَامحِ الأمل بِالمُسْتقبل الوَاعِد المُتمثِّل بِحِيَازَةِ الوظِيفَة، التي يَسْتَحِقَّها عَنْ جدَارَةٍ بُحكُمِ مَا مَشْهُود لهُ مِنْ كَفَاءةٍ في مَجَالِ اخْتِصَاصه. وَلعلَّ مَا فاقمَ مِنْ حدَةِ الآثَار النَفْسِيَّة التِي تَعرضَ لهَا، هو اللَوْم الدَائِم للنَفْسِ؛ انْعكاسًا لِتأنِيبِ الذَّات، وَمَا جَاءَ عَلَى صُورَتِهِ مِنْ شُعُورٍ بِالذَّنْب بِسَبَب تَعَطَّشَه إلى إِرْضَاءِ والده، حتّى اِخْتَلَطْت عِنْدَهُ مَشَاعِر مَظْلُوميته بِعَدَمِ تَعْيِينُه مُعِيدًا في جَامِعتِهِ كَمَا يُفْتَرَض أنْ يَكُون، بالإضافةِ إلى الإحْسَاسِ بِالألَمِ مِنْ أنَّهُ سَيبْدُو غير مقدّر مَا بذلهُ والدهُ مِنْ أجْلِه، وَرُبمَّا اِسْتَشْعَرَ أَنَّ العُقُوقَ أَنْسَاهُ فَضْلَهُ وَكَرَمَه!. ومِنْ هُنَا بدأت الحِكَايَة بكلِّ أبعادها الإنْسَانيَّة وَالأخْلاقيَّة وَالنفْسيَّة وَالاقْتصَادِيَّة وَالاِجْتماعيَّة، تُرَى مَاذَا يُخَبِّئ القَدَرُ لِبطلِ الرِّوَايَة... هَلْ ستكُون حياتهُ فضَاءً مُفْعمًا بِمَا تباين مِن الهزَائمِ، وملبدًا بغيومِ اليأس؟... وهل ستَسْتَنْزِف الإحْبَاطات النفْسيَّة بِوقعِهَا المؤثر مِنْ عزْمِهِ في المُضي قُدمًا نَحْوَ مَا رَسَمَ مِنْ أهْدَافٍ نَبِيلةٍ وَمشْرُوعَةٍ في رِحْلةٍ تكاد تَكُون صَّعْبَة وَمُكلفة، وقَدْ تَكُون مَحْفُوفَة بالمخَاطِرِ والمَهَالِك؟. أم رُبمَّا سَتَنْبَثِق مِنْ بيْنِ ثنايا هذا الواقع - الذي اِخْتَلَطْ فيه البُؤْس بالأمَل - إرَادَة قَوِيَة تَسْتَعْصِي علَى الاِنْكِسَار، وَلَا تلين أمام الشَدائِد، وَالتي مِنْ شأنِها الإسْهَام في مُوَاجهةِ مَا يُسَيْطر على وجْدانهِ وأفْكَاره مِنْ هَوَاجِسٍ واِرْتجَاجات؛ بِوسْعِها تَحْوِيلِ مَا يُحْتمل أنْ يتَعرَضَ لَهُ البطل مِمَا تكَاثَر مِن العَثَرَاتِ والإخْفَاقَات إلى خَارطةِ طَرِيقٍ تُؤَهِّلهُ لِلنَجَاح؟. يَتَحدَّد زَمَان الرِّوَايَة بِسَنواتٍ صَّعْبَة لِلغَايَةِ على خَلْفيَّةِ الْأَزْمَات السِياسِيَّة، إذْ كَانت أيامها مَلِيئَة بالأحْدَاثِ الهَامَة، التي شَهَدتها عُمُوم مَنَاطِق البِلَاد، وَالتي كَان لِمَا خَلَّفَت مِنْ تَداعِيَاتٍ خَطِيْرَةٍ بفعْلِ السِّينارْيُوهات، التي رَسَمَت مَسَـارَات تَصْعِيـد الصِـرَّاع؛ الأثر الكَبِير في نُفُوسِ العرَاقِيين. وَلعلَّ هَذَا الوَاقع كَان أحد الأسبَاب المُهمَة، التي حَفزَّت والد بطلِ الرِّوَايَة على عَدمِ السَمَاح لاِبنِهِ الذهَاب إلى بَغْدَاد؛ خشية التَوْهَان في دَهَالِيزِ الضَّيَاع بجَمَالِ الحَيَاة المَدنِيَّة في أرْوقَةِ العَاصِمَة، إلى جانبِ مَا تَشْهد بعض فضاءاتها مِنْ صِرَّاعَاتٍ: "بمرور الوقت، بدأت أموالي بالنفاذ ولحد الآن لم أحصل على عمل يتناسب ومؤهلاتي العلمية ويعينني في الفترة التي سأبقى فيها بالعاصمة بانتظار أمر التعيين..... أصبت بإحراج شديد كوني قد أخبرت أهلي بأني سأجد عملا حال وصولي لمدينة بغداد وعلى هذا الأساس قامت والدتي ببيع خاتمها الذهبي والذي ورثته عن أمها بعد أن رفض والدي فكرة ذهابي إلى العاصمة".....ص (10). يَسْتَعْرِضُ كَاتب الرِّوَايَة بإشَارَاتٍ رَمزِيَّة صورًا مِنْ تَشَوُّهَاتِ وضَبابيَّة الاقْتصَاد العِرَاقِي، وَاِفْتقارِه إلى الصِنَاعةِ المحليَّة وغيرها مِنْ المُشْكلاتِ التي يُعانِي مِنها، وَمَا نَجم عَنْها مِنْ فقْرٍ وَبِطَالَةٍ وإخْلَالٍ بِالاِسْتِقْرار، فضلًا عَنْ خُطُورَةِ الاِضْطراباتِ الشَعْبِيَّة؛ المتأتيَّة مِنْ صُعُوبَةِ تَوْفِير فَرُصَّ الْعَمَل، وضعف تَقْدِيم الخدمات: "تكررت جولاتي اليومية فالبحث عن عمل في مدينة أغلب شبابها من العاطلين كانت كمن يبحث عن إبرة وسط كومة من القش.... لا أعرف لماذا يأتي أبناء المحافظات إلى مدينة بغداد بحثا عن العمل وهي بالكاد تؤمن العمل أبنائها؟.....ألا يستطيع المسؤولين في المحافظات أن يؤمنوا فرص عمل لأبنائهم كي يساهموا في بناء مدنهم والتي تعاني من اهمال كبيرا وفي كافة المجالات علَى الرغم من الإيرادات الوفيرة التي يحصل عليها البلد جراء بيع نفطه وبأسعار مرتفعة قياسا سنوات خلت مع تنامي الإنتاج الوطني"..... ص (9). وَفِي ظلِ هَذَا الوَاقعِ، يَلتَقِي بطل الرِّوَايَة في الفُنْدقِ بالحَاج محمود (العَطَّار)، الذي حاوَل التخْفِيف مِنْ ضَّجرِهِ المُتأتِي مِنْ إخْفَاقِهِ في إيْجَادِ وظيفةٍ يَعِيش مِنْهَا بِشرفٍ وكرامة: "في الممر المؤدي إلى غرفتي قابلت الحاج محمود والذي بادرني بالسؤال ضاحكا: - هل وجدت عملا، وبحركة من راسي أشرت إليه بالنفي، أخذ يكلمني عن الصبر كي يمنحني بعض الأمل ولم ينس ان يذكرني بأنني في نهاية المطاف سوف أحقق كل أحلامي"..... ص (13). كذلك كانَ العَطَّار مُهتمًا بإقْنَاعِهِ بأنَّهُ سيكُون قَادِرًا على التَخَلُّصِ مِمَا هُوَ وَاقِعٌ فِيه مِنْ حَيْرَةٍ وَاضْطِرَابٍ، وَأنَّ بِمَقْدُورهِ أنْ يُطَمْئِن وَالده بِصِحةِ نَظْرَته في السَفرِ إلى العَاصِمةِ بَغْدَاد: "لكني استدركت قائلا بأن جميع المشاكل لها حل إلا مشكلتي فهي مستعصية كون والدي قد غضب عني بسبب تركي لقريتنا.. - ولماذا يغضب عنك... - لأنه يعتقد بأن في ذهابي إلى العاصمة فأنني انسلخ عن ذاتي وأضيع في تلك المدينة الصاخبة"... ص (15). ثمَّ عَمَد كَاتِب الرِّوَايَة إلى إحْداثِ اِنْعِطَافٍ كبير في مَسَارِ كِتَابة رِّوَايَته، مُعْتمِدًا في خطابِهِ الغرائبِيَّة أو العجائِبيَّة بِوصْفِها ضرب مِن الخَيالِ الجَامِح، إذ بَعدَ أنْ طمأنَهُ الحَاج محمود بأنَّ الزمنَ كَفِيْل بإنْهاءِ مُعانَاته، ولَا مجال للأبِ سوى حُبّ أبنائه، صَنعَ لَهُ خلْطَة عُشْبِيَّة مَكَنَتْهُ مِنْ رُكوبِ (غَيْمَة) نقلتهُ إلى عَالمِ الأموات؛ بغية التعرف على مجرياتِ الأحداث في الماضِي: "لم أصدق ما رأته عيني فلقد كنت حقا في عالم مثالي، عالم سرمدي، أول شيء شعرت فيه هو حالة السكينة التي أطبقت على المكان".... ص (49). وَكَانَ مِنْ ثِمَارِ هَذِهِ الرِحْلةِ العَجِيبَة الْمُوغِلَة في فَضَاءِ الفانتازيا، هو تَحْقِيْق بطل الرِّوَايَة أهم وَأبْرز أُمْنِيَّاته، وَلاسِيَّمَا أنَّهُ لم يكُ حَاضِرًا ساعات والده الأخِيرَة قبل وفاته، حيث اِلْتَقَى خِلالها والده طالبًا العفو والصفح مِنْه، وَرَاجِيًا أنْ يَغْفرَ لَهُ مُخَالفة أمْره في عدمِ ترْك قرْيته والذهَاب للعَمَلِ في بَغْدَاد؛ لأجلِ أنْ يَتخلصَ مِنْ عقدَةِ تأنِيْب الضَمِير، بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَت إحْدَى هَوَاجِسه الْمُؤَرَّقَة، التي كانت تقضّ مَضجَعَه، وَكُثْرَ مَا سَبَّبَت لَهُ شُعُورًا بالتَّوَتُّرِ أو القَلَق: "وحين أخبرته عن السبب، وبخني كثيرا لأني قد فكرت بتلك الطريقة الصبيانية...... - أيعقل أن أرحل عن عالمكم وانا غاضب عنك؟ قال ذلك بدهشة واستدرك قائلا: لقد افنيت حياتي من أجلكم، هل نسيت تعبي في تلك الحياة، هل رأيت مثل هذه المفارقة، لم آخذ شيء من تلك المغانم الدُنيويَّة معي، تركتها كلها لكم.... ثم كيف تفكر ولو للحظة واحدة بمثل هذه الطريقة، هل نسيت بأني أب، ولا يمكن للأب ومهما كانت أخطاء ابنه إلا أن يسامحه"..... ص (52). وَبَعدَ أنْ أنْجَزَ مَا كَانَ يَصْبُو إِليه مِنْ رَجَاءٍ حِيَالَ وَالده، عادَ بطل الرِّوَايَة على ظهرِ الغَيْمَة إلى عالمهِ فَرِحًا، إلا أنَّ أمْرًا حدث لَهُ شَغَلَ تَفْكِيرهُ، وَلَمْ يَجِد لَهُ تَفْسِرًا، وَالذي ستتضح مَعَالمه في رِحْلاتِ الغيْمَة القَادِمة: "في رحلة العودة، بدأت الأجواء هادئة لولا ذلك الهاتف السماوي والذي اخترق مسامعي وتلك العبارة التي لم أسمع منها سوى بدايتها وطنك نخلة".... ص (53). كانت السَعادة تَغْمرهُ في طَرِيقِ عودَته لِعَالمه؛ نتيجةً لِرضَا والدهُ عَنْهُ، الذي وَدَعّه باِبْتسَامةٍ دَاعِيًا لَهُ بالتَوفِيقِ وَالنجاح: "لم استطع نسيان ما جرى هذه الليلة فاللقاء مع الموتى حدث قد لا يَتحقق إلا لشخص واحد في هذا العالم..... أكثر شيء لفت انتباهي في هذه الرحلة هي حالة الرِضَا والسعادة التي غمرت ابي".... ص (57). قام بطل الرِّوَايَة بِرحْلتيِنِ أُخْريين، ليستكشف مِنْ خلالِهما سبب فراق حَبِيْبته التي اِرْتبطَ بِها أيام الدِرَاسَة الجَامِعيَّة، إلا أنَّ رِحْلةَ الغيْمَة الأخِيرَة أي الثالثة، التي كانَت مَدِينَة البَصْرَة بموروثِها الحَضاريّ والثقافِيّ مُستقرًا لها، كانت مُثِيْرَة مِنْ حيث تفاصيلها، فضلًا عَنْ إنها مَهَدَت لِنهايةِ حَيَاته: "كان مكانًا ساحرا ذلك الذي هبطت فيه الغيمة، توسطته شجرة عملاقة، أخبرتني الغيمة بأن في ثمار تلك الشجرة شفاء من كل الأسقام، كذلك ففي الجدول الذي يمر بالقرب منها بركة، وقد اكل جميع الأولياء والصالحين من ثمار هذه الشجرة وشربوا من ماء الجدول".... ص (74). في هَذِهِ الرِحْلةِ جَرَى حِوَارٌ مُثير مَعَ الشَجَرة، وَالذِي مِنْ أبْرزِ مَوَاضِيعه اِسْتذكَار وَاقِعَة الطف الأليِمَة في (كَرْبَلَاء) بِدلالاتٍ روحيَّة عَمِيقَة مُوغِلَة في الْوَجْدَان الإنْسَانِي، ثمَّ قامَ بِتسْليمِ الحاج مهدي مُذكرات الحاج محمود العطار الغنِيَّة بِالحِكَمِ والمَوَاعِظ المُسْتمدَة مِنْ تَجْربته في الحياة، وتعرفه على سِرِ النداء الذي سمعه عند عودته مِنْ رِحلتهِ الأولى، بعد أنْ أسرتهُ الشَجَرة بأنَّهَا هي مَنْ كانت تناديه، لكِنهُ لَمْ يتمكن مِنْ سَمَاعِ عبارتها على نحوٍ كامل: "هزت الشجرة أغصانها بلطف وقالت: - وطنك نخلة شامخة، عصية على الأعداء، والآن عد إلى زمنك وانجز المهمة".... ص (80). وَتَسَارعت الأحْدَاث في رِحْلةَ الغيْمَة الأخِيرَة، حِيْن عَادَ الزَّمَان بِبطلِ الرِّوَايَة إلى عام 2003م، حيث الْغَزْو الأَمِيرِكِيِّ للعراق، كان يتابع الحَاكِم المَدَنِيٍّ للعراق (بول برايمر) في مَقْهَى حَسَن عَجْمِي بِشَارِعِ الرَشِيد في بَغْدَاد، الذي كان يؤكد في حَدِيْثِهِ أنَّ قواتَ بِلاده جاءت لإنْقَاذِ أهل العراق مِن الظُّلْمِ وَالطُّغْيَان، وَوَاعِدًا إيَاهُم بِالرُّفَّاهِيَّةِ وَالبِنَاءِ وَالْإِعْمَارِ وَالتَّقَدُّمِ وَالِازْدِهَارِ، فكان أنْ تركَ المَقْهَى ودلَف إلى أقْرَبِ مَطْبَعَةٍ؛ لِطِبَاعَةِ لَّوْحَةٍ حملت عُنُوانًا كَبِيْرًا نَصَّهُ: (أنت كذاب كبير يا برايمر)، ثمَّ توجه بِمفردِهِ إلى المَنْطِقَةِ الخَضْرَاء بِكَرْخِ بَغْدَاد حَامِلًا اللَّافِتَة؛ لِمواجهةِ بول برايمر، حيث كانَ المُتظَاهِر الوَحِيد!. توقفَ مَوْكِب السَّيارَات المُصَفَّحة السَودَاء أمامهُ، غيرَ أنَّهُ لَمْ يكُن بِوسعِهِ التعرف على أيٍّ مِن الموجُودين في هَذِهِ السَيارَاتِ الفَخُمَّة؛ لتَّظْلِيلِ زُّجاجهَا، إلى أنْ تمَّ فتح نَّافِذَة إحدى السَّيارَات، فكان في مُوَاجَهةِ بول برايمر، الذي كانَ مُنْدَهِشًا، وَقَدْ جَرى بَيْنَهما حِوَار قَصِيْر، اِنتَهَى دُونَ أنْ يَعْلَمَ بإصدار الحَاكِم المَدَنِيٍّ أمْرًا عَاجِلًا بِاغِتْيَالِهِ؛ لاِكْتشَافِه أنَّ مُحْدَثه المُتظَاهِر عَائِد مِن المُسْتقبل، وأنَّهُ على درَايةٍ بلُعْبَةِ المصَالِح الأمِيرِكِيَّةِ، وأنَّهُ عَمَلِيًا يُشَكِّل تَهْدِيدَا بَالِغ الخُطُورَةِ على سِيَاسَاتهُم؛ لِذَا أعارَ الحَاكِم المَدَنِيٍّ مَسْأَلَةَ التَّخَلُّص مِنْهُ أَهَمِّيَّةً قُصْوَى، فكَانَ أنْ مزَّقَ الرَّصَاص جَسَدهُ، فتلقفته يَدَى والدهُ مُحْتَضِنَا إِيَّاهُ، وَطَابِعًا قُبْلَة على جَبَيْنه وهوَ يقول: (أنا فخور بك يا ولدي). * وَعَوْدٌ علِى بَدْء، يمكن القول إنَّهُ بعد أنْ ينتهِي القَارِئ من قِرَاءةِ هَذِهِ الرِّوَايَة برويةٍ وَإمْعَانٍ، يَلْحَظ جَلِيًا أنَّ جُنُوحَ كَاتِبها نحوَ الغرائبِيَّة، أو العجائِبيَّة؛ مَرَّدهُ إلى رَغْبتِهِ إيصال رِّسَالة بِإتْقَانٍ عَنْ طَبِيعةِ الْمُمَارِسَات، التِي تَعْتمدها الأنظمَة الاِسْتعمَارِيَّة للسيْطرةِ على الشُعُوب؛ لأجْلِ بَسْطِ نُّفُوذِها وهَيْمَنَتهَا في جَمِيعِ المَجَالاتِ الاِقْتِصَادِيَّةِ وَالاِجْتِمَاعِيَّةِ وَالثَّقافِيَّة، فَلَيَسّ غَرِيْبًا إنْ تَمَادَت الدُّول الْكُبْرَى في غَيِّهِا بِنَهْبِ وَسَلْبِ ثَرْوَات الشُّعُوبِ الْمَقْهُورَةِ، وَالْاِسْتِحْوَاذ على خَيْرَاتِهَا وجميع مَوَارِد نَهَضْتهَا، فضلا عَنْ التَّرْوِيجِ لطُقُوسٍ ثقافيَّة؛ قصد تَفْكِيك أواصِر المُجْتَمَع، وَالعمل على تَدْمِيرِ التَّمَاسُك الْأُسْرَي، ورَفْعِ مُسْتَوَى التَّجْهِيل؛ وَمواجهة كلّ الْفَعَالِيَات، التِي مِنْ شأنِهِا تَعْزِيْز الوَعِي وَتَرسِيخه في عُقُولِ النَاس. مِنَ الْبَدِيهِيَّاتِ أَنَّ النُخَبَ الثقافيَّة مَعْنية بِالدَرَجَةِ الأسَاس في مُهمةِ نشْر الوَعِيّ والمَعْرِفة مَا بَيْن أفْرَاد المُجْتَمَع، إلى جانبِ تَبْصِيرَهُم بِأهَمِّيَّةِ الهُوِيَّةِ الثَّقافِيَّةِ، وَالمحافظة على الإرْثِ الثقَافِيّ، وَبَذْل قُصَارَى الْجُهُود مِنْ أجْلِ نَشْرِ القِيَمِ النَبِيلَة وَالمَفَاهِيمِ الوَطَنِيَّةِ؛ بغية تَرْسِيخهَا في نُفُوسِ الأجْيَال. وَمِن هُنَا نَفْهم رُؤَيَة كَاتِب الرِّوَايَة حِيْنَ عمد إلى اِنتخَابِ مَقهَى حَسَن عَجْمِي في فَضَاءِ شارع المُتنبّي، الذي يُعَدُّ بِإرْثِه وَاِمْتِدَاده الثقافي أَيْقُونَة بَغْدَاد الثَّقافِيَّة، وَالشَّرِيَّان الثقافي لأهَالي بَغْدَاد والمُحَافظَات العِرَاقيَّة في إشارةٍ رَمْزِيَّةِ إلى أَهِمِّيَّةِ دَوْر المُثقَّف في إشَاعِةِ مُوجَبَات الحفاظ على اللحمةِ الوَطَنِيَّةِ، وَإعَادة تَشْكِيل الوَعِيّ مِنْ مُنْطلقاتٍ وَقيمٍ أخْلاقِيَّة رَاسِخَة. إنَّ اِقْتِصارَ مُوَاجَهَةُ رَمْز سُلْطة الاحتلال (الحَاكِم المَدَنِيٍّ) على مُتظَاهِرٍ وَاحِد، لَهُ دلالةٌ واضحة على ثِيْمَةِ هَذِهِ الرِّوَايَة وَدَوافعها الحَقِيقِيَّة، وَالْمُتَمَثِّلَة بِإشْكَالِيةِ غِيَابِ الوَعِيّ الجمَاهِيرِي بأهْدَافِ الْمُحْتَلّ وَاِتِّبَاعه سِيَاسَة الْمُرَاوِغَة، إذْ أنَّ الشَعْبَ التَّوَّاق لِلحَرِّيَّةِ مٌلزَم بالوُقُوفِ صفًا وَاحِدًا ضد أي مساس بِرِفْعَةِ البِلاد وَسُلْطَتُها وَمَجْدُها، وهو بِتقدِيْرِي تَجْسِيد حقيقي لـ مَعْنَى (عَصْر الغِيَاب)، بِمَعْنَى أنَّهُ العَصْر الذي تَغِيب فِيهِ الحَقَيقَة، وَتَسُود فَضَاءَاته الفَوْضى، إنَّهُ عَصْر التَّضْلِيل وَالخُدَّاع الْإعْلَاَمِيّ. * _______ عنوان الرِّوَايَةِ: عَصْر الغِيَاب. اسم الكاتب: حَسَن المُوسَوِيّ. عدد صفحات الرِّوَايَة: (88) صفحة من القطع المتوسط. الطبعة: الأولى 2020م. الناشر: دار للطباعة والنشر والتوزيع - مصر. |
المشـاهدات 98 تاريخ الإضافـة 10/12/2024 رقم المحتوى 56862 |
كُوَّةٌ فِي زَوَايَا مَخْفِيَة مِن التَارِيخ.. قراءةٌ في كتابِ (أربع شَخْصِيَّات مِنْ تَارِيخِ العِرَاق) لِلكَاتِبِ الأدِيب وَاثِق الجَلَبِي |
كُوَّةٌ فِي زَوَايَا مَخْفِيَة مِن التَارِيخ.. قراءةٌ في كتابِ (أربع شَخْصِيَّات مِنْ تَارِيخِ العِرَاق) لِلكَاتِبِ الأدِيب وَاثِق الجَلَبِي |
كُوَّةٌ فِي زَوَايَا مَخْفِيَة مِن التَارِيخ.. قراءةٌ في كتابِ (أربع شَخْصِيَّات مِنْ تَارِيخِ العِرَاق) لِلكَاتِبِ الأدِيب وَاثِق الجَلَبِي |
الطبعة الثانية من كتاب “مَرَاثِيّ الوَالِدَيْن فِي قَصَائِدِ الشُعرَاءِ العَرَبِ المُعَاصِرين” للباحث والكاتب الأديب لطيف عبد سالم |
"وَحَدَّثَ.."/ "مَا فِي صُدُورٍ.." |